اعتقد آنّ الانقسام الحاصل بين التونسيين حول الحرب الحالية يرجع الى عدّة أسباب مُحتملة، ولعلّ أهمّها،
(1) الأسباب أيديولوجية،
حيث مازال يعتقد البعضُ أنّ روسيا تسودُها الأيديولوجيا الشيوعية وبالتالي اليسارية، ولا فائدة في دعم النّظم الليبرالية التي تستمدّ سياساتها من عملاء قائمين على الشأن العام في الدّول التابعة لها وهي سبب تهميشها وافقارها وتخلّفها والحول دون انعتاقها. وهذه فرصة لقلب موازين القوى في العالم والحدّ من توسّع اليمين الليبرالي في العالم الذي لا يخدم الاّ مصلحة رأس المال.
الاّ أنّ - علاوةً على انّ ملامح النظام الاقتصاد الروسي اليوم هو أقرب الى نظام رأسمالي هجين تحت دولة ريع مُسلّحة، متّسم بمؤشرات تقرّبه أكثر من الدّول النامية منه الى الدّول المتقدّمة من حيث المؤسسات والاندماج في التجارة العالمية- هذه القراءة القديمة التي ترجع أثارها الى حقبة العشرينات من القرن الماضي الى سقوط حائط برلين على الأكثر؛ حقبة اتّسمت بافتقار الشق الشيوعي لتصدير نموذج اجتماعي يجد حاضنة ثقافية في العديد من دول العالم من جهة، على عكس الشق الليبرالي الذي استطاع أن يصدّر بعض القيم الكونية من حرّية وديموقراطية، ولكن النتيجة تقريبا واحدة وهي تعميق التفاوت في الازدهار الاجتماعي والأمني بين المركز الرأسمالي والحاشية التابعة له.
(2) الأسباب المصلحيّة ذات النطاق المحدود،
حيث يرى بعض المناهضين للتدخّل الروسي العسكري أنّ مصالحنا الحالية انّما تتحدّد وفق مساندتنا للقوى الغربية خاصّة وأنّ قصّة الازمة المالية في تونس والحاجة الى التمويل الأجنبي الاستعجالي يعتبرونه "السبيلَ الوحيدة" للخروج من أزمةٍ لطالما ضخّمها وزراء اقتصاد انتهازيون وفاشلون، بل عمّقُوها ولم يروْا في الإصلاحات الاّ التنقيص من كتلة الأجور ولم يوسّعوا من نظرتهم الى جوانب أخرى مركزيّة – تكاد تكون بديهيّة- تتمحور أساسا حول النمو الاقتصادي وشروط استدامة الدّين وبناء القدُرات المؤسّسية؛ ثلاثة مصطلحات لم تُذكر بتاتًا طيلة انخراطهم في القرار الاقتصادي.
وقد روّج لهذه النظرة المحدودة والخاطئة في آخر المطاف، "خبراء" من نفس الجنس، الى أنْ تضمّنت ميزانية الدّولة فرضيّة "التفاوض مع ص.ن.د" وهو أمرٌ عُجاب -كما يقول الادباء-. ولذلك يقف أصحابُ هذا الفهم الضيّق والمحلّي لمسألة دولية متعدّدة الأبعاد ضدّ التدخّل العسكري لروسيا في أوكرانيا.
(3) الأسباب المبدئيّة،
حيث يناهض البعضُ كل عمليّة عسكريّة تتعدّى سيادة الدّول وتنتهك حقوق الشّعوب في العيش بأمان وفي استقرار، في حين أنّ المدافعين على بوتن يروْن أنّ أوكرانيا استبطنت دور المُهدّد بالوكالة لمصالح روسيا ومستقبلها، لفائدة حِلف الناتو الذي ما فتئ يتوسّع باستراتيجيّة ناعمة بوضع الألغام في كامل أصقاع العالم سواءً بالحلف الثلاثي الحديث (أمريكا، إنجلترا- استراليا)، أو باستقطاب دول من أُروبا الشرقية والعمل على تسليحها مثل رومانيا وبولندا وألبانيا.
ولئن كان التهكّم على الشعوب المسالمة وتقسيم أراضيها والدوس على سيادتها وحصارها وتجويعها جُرمًا مرفوضًا مهما كانت الأسباب والغايات، فانّ ذلك ينسحب أيضًا على كوبا وفينزويلا والايغور والتيمور وغزّة والسودان وأريتيريا (لفائدة أثيوبيا) في الثمانينات ثم اثيوبيا في التسعينات (لفائدة ايريتريا) والعراق وسوريا وغيرها كثير.... واللافت :
(آ) أنّ الحروب التي شنها الرّوس والأوروبيون والأمريكان خارج ديارهم منذ القرن العشرين الى الآن لم تكن منها واحدة عادلةً في أعين مواطن عادي شهد أهوال الحرب والتمزّق الاجتماعي والإحباط والعجز على حماية ذويه. كلّها شُنّت بذريعة "الاستشعار بتهديد المصالح"! و
(ب) أنّ الناتو لم يتدخّل حربيّا خلال الثلاثين عامًا الأخيرة الاّ في مناسبتيْن يتيمتيْن، أولاها في كوسوفو عام (1992) بعد ما هُجّر المواطنون واغتُصبت النساء وشُرّد الأطفال وتقسّمت البلاد، وثانيها في ليبيا عام (2011) لإسقاط النظام، و
(ج) أنّ كل الحروب مهما كانت محلّية في ظاهرها، فإنها في باطنها متعدّة الجنسيات تتكتّل في جنسية واحدة متعدّدة القوات، وهذا من الملامح الأساسية للتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية التي هي مُعولمة أو لا تكون، و
(د) أنّه في كلّ الحروب تُرفع شعاراتٌ مثالية مثل "التحرير"، و"الديموقراطية"، و"محاربة الإرهاب"، و"حماية الأقليات"، "حقّ التدخّل" و"تعليمات المسيح في فرض السلم"... وكُلّها أبستمولوجيا أطلال اغتراب وبقايا التشكيلات الاجتماعية الغابرة، تُستعمل لدفع التطوّر الحالي لقوى الإنتاج ولا تُعرقله.
(4) الأسباب المتعلّقة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم،
حيث عندما يكون الحاكم فاقدا للشرعيّة الحقيقية، فانّه لا يُسمع حتّي يحتمي بشعبه عند اتخاذ مواقف إقليمية أو دولية. فينعدم الاتصالُ بين الطرفيْن، وتُفتقد صدقيّة الخطاب الرسمي ويتّخذ الناسُ مواقف متباينة تُجاه نفس القضايا. وهذا حال الدول التابعة التي لم تقم بأدوارها الأساسية تُجاه مواطنيها من أمن وتعليم وصحّة. وهو حالُنا.
وضمن عموم النّاس، أعتقد أنّ الحرب الحالية في أوكرانيا، ليست أقربَ الينا من حروب أخرى مصيريّة وأكثر شراسةً وأكثر وقعًا على كياننا، سواءَ كانت اقتصاديةَ أو ثقافيةَ أو إعلامية تدور في فلكنا وتهدّد وجودَنا، وذلك :
(1) لفقدان المعلومات، وهو كذلك حالُ العديد من حُكّام الحاشية،
(2) لعدم القدرة على تفكيك الاستراتيجيات الجيوسياسية وما تُخفيه الأجهزة الاستخباراتية المتطوّرة حيث الهدف المُعلن قريب الاجل ليس بالضرورة الهدفَ المُتّبع طويل الاجل.