اطلعتُ على التسريب المتعلق ببرنامج الحكومة (26صفحة) المقدم في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وهو وثيقة ارادت ان تكون شاملةً لأهم معوقات التمويل العام، كما اردت ان تكون انعكاسا لمتطلبات جلّ الاطراف المعنية بالعملية الاقتصادية والاجتماعية في ظل الازمة الحالية. وهذا يُحسبُ للجانب التونسي خاصة في سياق هزات لمؤسسات الدولة واهتزاز ثقة المواطن، ولكن كذلك الاطراف الاجنبية من منظمات مالية ومكاتب ترقيم ومستثمرين أجانب، في قدرة المؤسّسة التونسية على وضع اصلاحات نافذة. الاّ انّ هناك نقاطا جلبت اهتمامنا وهي منهجية واقتصادية بحتة محل تساؤلات نعتقد انها مهمة. وفيما يلي نقتصر على البعض منها:
(1) على المستوى المنهجي، كان على البرنامج ان يكون حزمة من عناصر اقناع الصندوق بتمويله لميزانية الدولة، الا انه :
- كان تجميعا يكاد يكون سردا للعديد من انواع الاصلاحات قد اعلنت عليها تقريبا جل الحكومات السابقة والمتعلقة بالقطاع العام حيث المحور الاساسي هو التقليص من العجز العام وجعله في مسار مستدام في المدى المتوسط بما يتضمّن من رفع الدعم ومن اصلاح المؤسسات العامة ومن تخفيض في كتلة الاجور ومن استهداف المستفيدين من الحماية الاجتماعية.
الاّ انّ ًآليات تحقيق ذلك غابت في أغلب فقرات الوثيقة، سوى دعم القدرات المؤسسية بإعادة توزيع الموظفين في الادارة المركزية والفرعية (وهو لازم وغير كاف لبناء القدرات المؤسسية) او الاسراع برفع الدعم عن بعض المحروقات واتباع المنهج التدريجي(gradual implementation approach) في وضع الاصلاحات… واما عن الطرق المزمع اعتمادها في اهداف ادارة المالية العامة او استراتيجية البنك المركزي الثلاثية او التنسيق بينها والحكومة… فإنها كانت تقريبا انشائيةً مع التركيز على الجانب التنظيمي الذي لا يمس بالضرورة جوهر البعد المؤسسي، قد يمكن الحديث عنها في اي اقتصاد مشابه. وقد لا تكون هذه نقطة قوة البرنامج الحكومي سيما وان معيار الاولويات المُعلن هو "الاصلاحات الاقل تكلفة"، وهذا لا يستقيم مع تجارب الاصلاحات الهيكلية اذا لم يُستهدف الترفيع في الانتاجية في القطاعين العام والخاص من خلال سياسات موجهة، في ظل الازمة الحالية والتفتت المؤسسي الذي يميزها.
- عند قراءة البرنامج، نستشف انه مركّب من فقرات ليست من نفس الجنس حتى لُغويا. فالفقرات المخصصة تباعا (1) للسياسة النقدية وميدان سعر الصرف (2) والقطاع الخاص (3) والمؤسسات والمالية العامة، كانت فاقدة للتناغم بينها، بحيث عند حذف احداهنّ، يستقيم المعنى لغويا، ولكن لا يستقيم بالضرورة اقتصاديا.
وكأنّ كلَّ طرف عبّر عن مصالحه واصلاحاته بدون ان يكون الكُلُّ منسجما في نظرة واحدة ممّا يفيد بمخاطر التناقض بينها (قد اعود اليها في نشرية لاحقة)، خاصة وان الطابع العام للإجراءات والاصلاحات كان في لفظه عاما جدا لغاية الغموض مثل المنهج التدرجي (gradual) في "فتح حساب راس المال" كخطوة نحو التحرر المالي الكامل" (والذي تم الاعلان عنه منذ عام (1993) ولم يُنجز، حين حُرّر الدينار على التبادلات الجارية) مع الاشارة الى نفس اسباب عدم تحرير السوق المالية مازالت قائمة الى حد الان(بما فيها الغث والسمين)، والذي خصّه برنامج الحكومة الحالية في الجزء المخصص للبنك المركزي بمعيارٍ يثير الغرابة وهو "التحوّط ضد المخاطر" وارساء "نظام انذار مبكّر" وهو كلام يكاد يكون صحفيا فضلا عن بداهته، ولكن كذلك انحرافه عن الادبيات والتجارب العالمية في اتباع المنهج التدرجي في الاصلاحات، والذي هو في حد ذاته مصدرٌ لتكلفة اجتماعية واقتصادية، لم يتم مقارنتها بتكلفة الاصلاح "مرّةً واحدة " (sudden implementation of the reform) وهي طريقة اعتُمدت في بعض التجارب. وهنا كان من الافضل البرهنة على هذه الطريقة التدريجية والتوسع في تحليلها ومواءمتها مع الاقتصاد التونسي الحالي.
- قد تكون العناوين والاصلاحات المعروضة في البرنامج جادة، لكن لا شيء يبرهن عن ضمان الانجازات طالما انّ المضمون تقليدي والجانب الفني او مُخرجاته غائب كليا. وقد يكون اطار الوثيقة لا يسمح بالتعمق في الجانب الفني، لكن كان من الاجدر على الاقل ذكر كبار الشركات العامة واهم البنوك واهم القطاعات واهم المجموعات الاجتماعية المعنية بالإصلاحات واولوياتها وتكلفتها.
(2) على المستوى الاقتصادي :
كسائر البرامج الحكومية للإصلاح او لإنقاذ الاقتصاد، كان من الضروري الاعلان عن اهداف اقتصادية جامعة مع مداها الزمني بالدقة الكافية وبالتحديات المبوبة حسب حاجياتها المالية والبشرية، ثم الاختصار على تلك التي تهم صندوق النقد الدولي ذات المدى القصير وعلى الاكثر المتوسط وهي التي تدفع نحو الالتجاء اليه، فان ذلك يدعم القوة التفاوضية للجانب التونسي.
فالقضية ليست سردا بصفة تكاد تكون انطباعية لجملة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتي هي مرتبط بعضها ببعض، لكي يقبل ص.ن.د. بتمويل الميزانية. فقد كان من الاجدر تعميق التحليل الاقتصادي الكلي بدرجة اولى، ثم التعرض الى المعوقات الهيكلية للاقتصاد بما يُختزل في تدني النمو المحتمل (potential) وبما في ذلك من تداعيات على سوق العمل وسوق العملة الاجنبية والتصدير ومخاطر تدني "درجة التنويع الاقتصادي". فقد كان من الاجدر تبويب مصادر الهشاشة الماكرواقتصادية ولكل نوع يقابله اجراءٌ معيّنٌ ومحدد ماليا وفي الزمن. ومن ذلك تكون الاجراءات مبوّبة هي الاخرى وفق اهداف المحصول الضريبي وادارته والتوحيد المالي، والتصدير واستقرار سعر الصرف، واستقرار التضخم، وبالنهاية استدامة العجز الداخلي والخارجي.
عندها يكون برنامجا اكثر فرصا لإقناع الصندوق.
اخيرا، بهذا البرنامج، يمكن لتونس ان تدخل في دورة من التفاوض الفني مع ص.ن.د. وتحصل بالنهاية على تمويل، لكن (1) بالانصياع الى شروط هذا الاخير، ولكن وبالخص (2) بشرط ضمان استمرارية الحكومة الحالية حتى الاصلاحات التي سيتم اقرارها تكون مضمونة الانجاز.