اعتقد ان من أسباب تفاقم الاوضاع في تونس هو ذلك الشعور المتواصل بالتفاؤل غير المبرر وغير المُعقلن في اهمّ المحطات التاريخية، وكانّه يتشكّل كظاهرة اجتماعية قد يخوض فيها الاصدقاء المتخصّصون بفنون الاجتماعيات افضل من غيرهم.
ولكن اعتقد -تواضعا- انّ جزءً من الكهول الحاليين من التونسيين تربّى اغلبُهم على الفعل والتدخّل والمشاركة وابداء الرأي والتعبير "بكل حرية" في كل المجالات عدى تلك الراجعة بالنظر مباشرةً او بصفة غير مباشرة الى "الدولة". وكانّ تمثيلية الدولة للمجتمع وانعكاس ارادة الاخير بالأولى جزئيةً او منعدمة.
فكانت المقولات السائدة التي لا تتجاوز حدّ الوصف ونّكران "ذات المواطَنة"، مثل "باش يعملوا اوطوروت"، "لا، بطّلوا"، "باش يزيدوا في الشهاري"، "بش يهدموا المركب الجامعي وينقلونا لبلاصة اخرى"، "لا، الزيادات على ثلاثة سنين"، "فلان وقفوه على الخدمة على خاطر طوّل لسانو مع المدير"، "فلانه ما قبلوهاش في الخدمة على خاطر بوها معارض"، "اجّماعة هاذومكا الكلّ من المغضوب عليهم"، "الرئيس باش يحوّر الدستور وبش يحكم حتى العام الفين واربعطاش"، "عندي بنتي بس تسجل في الجامعة، نعرفش شكون"، "ولدي بش يعمل عملية، نعرفش شكون"، .. إلى غير ذلك من تعبيرات تنمّ عن الاحتفاظ بموقع الصبي الذي يهتم والدُه برعايته الصحية والغذائية مقابل الطاعة (ميتافور مستعارة من روسو في كتابه "العقد الاجتماعي") وعن وعي غير ثابت بعلاقة المواطن بالدولة التي توسّعت منذ الاستقلال خدماُتها في ظاهرها بالانفراد بكل المجالات وخاصة التفكيرية منها وبصناعة القيادات، ولكن تقهقرت في باطنها بنذر العجز عن مواصلة هذا الدور المرهِق لها والاقصائي للمواطن بصفته كائنا مُحتمل الفعل.
وتجدر الاشارة الى انه حتى وان كانت علاقة "المجتمع" بالدولة يمكن ان تُعتبر متوترة في ضوء الاحداث القصوى المتواترة منذ بداية الستينات الى حد الان، فان بعض المظاهر ادت الى الاستغناء عن الدولة في نموذج اعادة توالد الظروف الاجتماعية المادية. اذْ من الملاحَظ ان ارتفاع متوسط الدخل في بعض المناطق التي غابت عنها خدمات الدولة مثل سيدي بوزيد التي اصبحت منذ اواخر التسعينات من اهم مصادر المنتجات الزراعية في البلاد بسبب حفر الابار وڤبلي حيث مبادرات جماعية مكنت من الاستثمار فيها علاوة على تحويلات المقيمين بالخارج الى تطاوين.
هذه امثلة من الاستغناء عن الدولة وعدم الاعتراف بالمسالك "الرسمية" وتوسع "القطاع غير المهيكل" الذي هو معطى تاريخي واجتماعي وثقافي قبل ان يكون تقنيا يُرمى اصحابُه بأبشع النعوت المشيطنة لهم من "التهرب الجبائي" و"التهريب"، و"الكنترا".
وفي المُقابل، هناك "مجتمع الادارة" و"موظفو القطاع العام" و"الموظفون عموما"، تجدهم رهن ارادة الدولة في تقرير مصيرهم. تشكل وعيهم منذ عقود بلعب دور محوري في اعادة توالد نفس "السستم".