صراع الرّمزيات ودلالات الشّخْصَنة في الفعل السياسي التونسي…

هذا النص ليس تقييما تاريخيا ولا سردا لأحداثه.

أعتقد أنّ السياسيين في تُونس راهنوا منذ عشرات السنين على الرّمزية غير المُعلنة في دعم فعلهم السياسي لإحلال الخصم الأبرز وكأنّهم يُعلنون الانتصارَ عليه من خلال الاستحواذ على رمزيّته. ويتأكّد هذا الأمر أكثر كلّما كانت من دلالاته الدواّفع الشخصيّة.

وهذا، وعند قدُومه من فرنسا ونزوله في مرفئ حلق الوادي، امتطى بورقيبة جوادًا في حشد جماهيري لافت، وهي دلالة علي "النصر" قبل الاعلان عن الاستقلال، ولم يُعرف عنه ركوب الخيل من قبل، وقد تدرّب على ذلك في فرنسا كما يروي المرحوم د. خالد المنوبي، واضعا "الطربوش "السطانبولي" على رأسه وهي دلالة النخبة الديبلوماسية في ذلك الوقت، وحاملا ربطة عنق "الكشافة التونسية، أي أنّه يراهن على الشباب والجيل القادم وليس الجيل الحاضر.

وكأنّه بامتطاء الجواد، كان يخاطب الشّعب، بتعابيره الثقافية التي هي جزء من هويّته أو كذلك "الفلاّقة" الذين لن يعتلوا الحكم. وهي رمزية التأصّل في الثقافة غير الغربية، بل العربية الإسلامية التي كانت آنذاك مرجعيّة التياريْن العُروبي والزيتوني المنافسيْن له واللذيْن لن يعتليا الحكم كذلك، الى جانب تثمين التجمّع الجماهيري للزعامة متجها بذلك للمستعمر، ولكن كذلك الى الباي الذي سينقلب عليه.

ومن جهته، استعار بن علي اللون البنفسجي للتجمّع الدستوري الديموقراطي، الذي هو لون البطاقة الانتخابية لحزب النهضة في الانتخابات التشريعية لعام 1988، عوضا عن اللون الأحمر التقليدي للحزب الاشتراكي الدستوري، وتقلّد مهمّة "حامي حمى الدين والوطن" حيث كان"الدّين" مرجعية للتيار الخصم آنذاك وهو المساحة التي تحصّل من خلالها على حاضنة شعبية تنافس حاضنة الحزب الحاكم، وكما كان يرتدي في بعض المناسبات الدينية "جبّة تونسية ذات اللون البنفسجي"، فانّه قد محا صورة بورقيبة من العُملة التونسية ونقّل تمثاله من قلب العاصمة الى مكان مختفٍ في حلق الوادي، كما غيّر أسماء بعض الشوارع الهامّة من "الحبيب بورقيبة" الى "7 نوفمبر" أو "البيئة".

ولكنّه لم يجرء على وضع صورته في العُملة أو تسمية الشوارع باسمه، لأنه فاقد لشرعية تاريخية ولم ترتق قدرته القيادية الى قدرة الزعماء الاوتوقراطيين المعروفين في العالم مثل تشاوشيسكو في رومانيا أو غيره. فكانت محاولاته محتشمةً مثل تسمية "جامع العابدين" في المرسى.

ونلاحظ كذلك ارتداء منصف المرزوقي "للبرُنس" التونسي العتيق في لونه البُنّي -وليس الأبيض الذي كان يرتديه "البَلْديّة" و"مشايح الزيتونة"، والذي لا أعتقد أنّه كان ذلك لباسَه العادي عندما كان في فرنسا، وهو رسالة تعاطف مع المتساكنين داخل البلاد وخاصّة الجنوبية منها، وفيها شيئ من الشعبوية الرمزية. وكأنّه الإعلان عن افتكاك مكانة المبزّع والسبسي وبورقيبة الذي -هذا الاخير- قد يكون طلاقُه من "ماتيلدْ" أُمِّ ابنِه الاوحد، وزواجُه من "وسيلة بن عمّار"، علاوةً على تعلّقه بها، مصاهرةً ضمنية مع "البلْديّة" الذين كانوا في خطّ الباي وعائلته الموسّعة وهم كُثر، وتجنّب ردّة فعلهم.

وأمّا في ولاية السبسي، فقد بادر هذا الأخير بإرجاع صنم بورقيبة الى قلب العاصمة بعد 29 عامًا وتنصيب صنم آخر في المنستير وكأنّ الامر مفادُه ترسيخ رمز "الدّولة الوطنية" المختزلة في"البورقيبية" التي لم تكن -والحق يُقال- مرجَعًا راسخا طيلة حُكم بن علي، ولكن تقليصًا من وطأة ثورة 17-14 جانفي على الوعي الجمعي؛ "بورقيبيّةٌ" استثمرت فيها عدّة أحزاب فاقدة لمضامين وبدائل اجتماعية واقتصادية موضوعية تُجابه التحدّيات الجارية والمستقبلية.

وأمّا تشبّث الغنّوشي اللافت برئاسة البرلمان خاصّة بعد تعدّيه حاجز لائحة سحب الثقة وهي فرصةٌ عقلانية للانسحابٍ فرّط فيها بدون أسباب مفهومة، فإنها قد تكون دلالتها اعتلاء أهمّ سلطة في البلاد ورسالة موجّهة الى خصمه بن علي أو من يواليه وكذلك الى جزء من اليسار الذي تحالف معه في التسعينات وما بعدها لاستبعاده.

وأخيرا، صلّى قيس سعيد في الفلاة بمفرده تحت أنظار كل التونسيين وتشبّث في خطابه بمرجعية ماضي الدستور التونسي والاستشهاد ببعض قرارات بورقيبة في التعامل مع الدولة وفي تعيين الحكومات، وكذلك تحدّث من جامع الزيتونة ذي الدلالات الدينية والثقافية المتعددة منتقدا لفظ "اسلامين" عوضا عن "مسلمين"، وإعادة تعيين الوزراء الذين تخلّى عنهم المشيشي الي فريق نجلاء بودن، والذين كانوا من اقتراحه، قد تكون دلالاتها رسالة موجّهة الى خصومه من الحزام الدّاعم للمشيشي الذي يعتبره انقلب عليه. ويعتبر قيس سعيّد أنّ ما يقوم به انّما هو "تاريخي يرتقي الى رمزية التحرر الوطني"..

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات