في إطار نظام انتخابي يُفضي بالضرورة الى التشتت في التمثيليات البرلمانية وفي مرحلةٍ تراجع فيها منسوب الثقة بالطبقة السياسية وصعود الاتجاهات الشعوبية مع عدم استكمال المؤسسات الدستورية، تقع البلاد في أزمات سياسية دورية تعجز إثرها على مجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، وتضعف مواقفُها في القضايا الإقليمية والدولية وتصبح مرمى للاستهداف داخليا وخارجيا. وفي هذا السياق تتقاربُ أوزان كل الأحزاب سياسيا باختلاف أوزانها الانتخابية من خلال التحالفات غير المستقرة. وقد افرزت الفترة الأخيرة دورا مهما للأحزاب الناشئة التي انخرطت في نهج صعب التوفيق بين أدوار الأحزاب السياسية زمن الانتقال الديمقراطي ومتطلبات الصراع من أجل البقاء والتوسع وتسجيل النقاط السياسية. وقد يكون حزب "التيار الديموقراطي" الناشئ ذي المرجعية اليسارية مثالا يختزل مواصفات هذه الاحزاب الناشئة.
تحالف حزب التيار مع "حزب الشعب" ذي المرجعية العروبية القومية في كتلةٍ تبوّأت الموقع الثاني في البرلمان من حيث الحجم. وقد لعب التيار دورا مهما –الى جانب غيره–فيما آلت إليه البلادُ من تعطّل مؤسساتها واشتداد المشاحنات السياسية بين الأحزاب في البرلمان وفي الفضاء العام بين الأنصار في فترة امتدت الى ثلاثة ارباع العام الحالي وقد تطول، خُصّصت للمشاورات والتصْريحات المضادة والاستراتيجيات السياسية قصيرة الاجل، كسائر الأحزاب التي مضت في أنشطتها بمعزل عن متطلبات مسار الانتقال الديموقراطي.
وقد يكون مآل اختيارات هذا الحزب إعادة توالد ما وقع في عام 2011 إبان انهزام الحزب الجمهوري في الانتخابات لمّا أعلن أمينُه العام أحمد نجيب الشابي عن انضمامه للمعارضة في حين أنّ التجارب الانتقالية الناجحة جمعت بين النخبة السياسية الصاعدة في ائتلافات موسعة (Dahl, 1971) خدمةً لقضايا التنمية (Lipset (1959), Almond et Verba, (1963) et Moore (1966)) وتفاديا لأخطار الرجوع الى المربع الأول لو فشلت النخبة في تحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.
وبحكم حداثته في السياسة، يبدو ان حزب "التيار الديموقراطي" لم يصب الهدف في إدارة المرحلة على مستويات عدّة، اذْ يبدو انّه لم يتلقّ ملاحظات وانتقادات بنّاءة. وفيما يلي أقتصر على منهجِه في التعاطي مع المشهد السياسي وادارته للأحداث خلال الفترة الأخيرة، القائمة على:
1. تحديد خصم سياسي وحيد، واحتكار المحاربة على الفساد
تموضعَ التيار مُبكّرا في المشهد السّياسي وتعمّد تحديد "خصم" سياسي أساسي" و"محور للنضال" يمْنحَانه شرعيةً نضالية وسُهولةً في الترويج السياسي للحزب.
فأمّا الخصمُ السياسي الأساسي فقد كان في مرحلة أولى الفريق الحكومي ليوسف الشاهد طيلة عُهدته والذي قال فيه محمّد عبّو ذات برنامج تلفزي مباشر "إنّ الذي يجب ان يكون في السّجن هو يوسف الشاهد(*) وأما "محور النضال" فهو "محاربة الفساد" الذي اخذ نواب الحزب منه جواد المعركة الترويجية وعنصرا محوريا في الحملة الانتخابية، الى غاية احتكار "مجال محاربة الفساد" وإعلان احتكار الجدارة في ذلك وعدم إعطاء الثقة لأي طرف آخر، بل التلويح باتهام جل الخصوم السياسيين بالتورط في الفساد (النهضة، قلب تونس، الدستوري الحر، تحيا تونس وبعض وزرائهم) الذين يمثلون اغلبية عددية في البرلمان.
وقد أصبح هذا بيّنا بعد الإعلان عن رفضه الانضمام الى حكومة فيها حزب النهضة، ثمّ في رفضه الالتحاق بالحكومة الاّ بتقلّد الوزارات المعنية بمحاربة الفساد والإصلاح وهذا لا يُستساغ في عالم الديموقراطية، خاصة وانّ التمشي الأول في تكوين الحكومة ابان انتخابات 2019 كان نحو الأحزاب المحسوبة على الاستجابة لإرادة الناخبين في سياق تحوّل الثنائيات من أيديولوجية عقيمة الى محاربة الفساد وتدارك الاختلالات الحاصلة فيما قبل، وان هذه الأحزاب لن تكون لها أغلبيه مريحة حتى ولو اجتمعت، وانّ دور التيار في ذلك كان محددا.
وفي نفس الوقت يواصل التيار استراتيجيته الاتصالية المتضمنة بشكل ثابت اعتبار أنّ هناك "جيشا الكترونيا" يُطارده بصفة مُمنهجة بالأكاذيب والاشاعات، لم يبرهن عن حجمهم ولم يتقدم بالشكاية ضدهم لدى السلطات القضائية بالرّغم من ادّعائه معرفتهم، مفضَلا استثمار ذلك إعلاميا وسياسيا (وقد تكون لكل الأحزاب "جيوشا الكترونية غير مُعلنة وأطراف غير مُعلنة دخلت للخط لأجندات سياسية)!
لكن، عوض أن يكون أولُ ملف فساد يعالجه محمد عبو كوزير دولة في حكومة الفخفاخ هو ملفَّ يوسف الشاهد الذي اعتبر أن مكانه الطبيعي هو السجن لفساده، لم يكن الأمر كذلك، بل تحالف معه لإسقاط حكومة الحبيب الجملي الثانية وتحالف معه أيضا في دعم حكومة الفخفاخ. وفي الأثناء، جعل من النهضة "خصما أساسيا"– وهذا حقّه– سعى من خلاله الى رأسملة نتائج الانتخابات البرلمانية المفاجئة التي تحصّل عليها حتى ولو كان على حساب المسار الديموقراطي برمّته – كما سنبين أدناه– ، عوض أن يركّز على برامجه الاقتصادية والاجتماعية وتكوين المنتمين الشبان في حزبه واثراء ادبيات الحزب التي لا نذكر انّ فيها مراجع خارج البيانات المتعددة والمتعلقة بالأحداث اليومية والتي لا ترتقي في بعض الأحيان الى توقعات المتعاطفين معه مثل بيان 21 جويلية/ يوليو الذي لا يدين ولا يذكر صراحة دور الحزب الدستوري الحر في تدهور الأوضاع البرلمانية، والذي اعلن استعداده لمساندته في لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس.
2. الشخصنة، تضخيم الرصيد النضالي والاقصاء
اعتمد الأمين العام لحزب التيار محمد عبّو في خطابه اليومي على تجربته الشخصية-الذاتية مع حكومة الترويكا في عام 2012، وهو الذي كان في ذلك الوقت عضوا في حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" بقيادة محمد المنصف المرزوقي، ثمّ نقل استنتاجاته الشخصية الى حزبه الناشئ (التيار الديموقراطي) المتمحورة حول انتقادات ثابته في الذهن من تجربةٍ لم تتجاوز فعليا ثلاثة أو أربعة أشهر، وعلاوةً على غياب الاستدلال وعدم اعتراف رئيس حكومة الترويكا بأقوال عبُّو، فان هذه الاستنتاجات كانت قوية نسبيا مقارنةً بعدم نجاح الحكومة آنذاك في الاتصال والاعلام وبالمدة القصيرة التي تواجَدَ خلالها في الحكومة، في حين أنّ أغلب أعضاء التيار شباب لم يكُونُوا أعضاءً في حزب المؤتمر، فانهم يتبنون جميعُهم رواية عبو ومؤاخذاته على الترويكا وبالتحديد النهضة، ووع الإشارة الى أنّ تقييمهم الخاص وارد لأداء الترويكا لكن قد تضعف مُخرجاته الى اقتصروا على جزئيات الشخصية واستنتاجات عبّو الذي لم ينقطع عن الحديث عن هذه التجربة القصيرة وتضخيمها في أغلب المناسبات الإعلامية وكأنها مرجعٌ لأفضل الممارسات، مُفرّطا بالتالي في فرصة الاعتماد على تجارب انتقالية أخرى عديدة جدا في أدبيات علم الاجتماع السياسي وأكثر ثراءً ومصلحةً للبلاد(Huntington, 1991).
واللاّفتُ أنّ استنتاجاته الذاتية استقرّت في ذهن المنتمين الجُدد الى حزبه الناشئ كمنطلق لبناء الخطاب المتواتر ولتبرير المواقف، الى حدّ رايه "بضرورة ان يمرّ الحزب الأول في الانتخابات الى المعارضة" وان "هدفه ان يعمل على ازاحته"(**). وهذا يجمع بين الاقصاء والاحتكار للحكمة: أي بالتفكير عوض الآخرين وبمعرفة مصلحتهم وهذا استهانة بالخصم السياسي وهي نقطة التقائه مع الحزب الدستوري الحر ذي مرجعية النظام السابق الأوتوقراطي، في حين انه لا يختلف اثنان ديموقراطيان أنّ إزاحة الخصم لا تتم الا عبر الصناديق! وهذا في ظل نُقص النُقّاد في الادبيات السياسية حيث لم تتمّ مناقشة هذه الأفكار الدخيلة على الأعراف الديموقراطية والخطرة على مسار الدَّمقْرطة، وهذا لا يعني كذلك اننا نعتبر الحزب الاول أو أي حزب آخر فوق النقد وقد نُدلي بها في مقال آخر…
أخيرا، يبدو أن التيار اتّخذ من منهج "الاستقراء" أي الانطلاق من الخاص الذاتي الشخصي الى العام وتعميمه لدى عموم الناس في بناء خطابه السياسي واتخاذ مواقف سهلة الانتقاد علميا وسياسيا وضيقة النطاق للتعميم في واقع متعدد المكونات وكثير التحولات، بحثا عن تسجيل نقاط سياسية؛ منهجٌ حمله حتما الى التحالف العضوي أو الموضوعي مع مناهضي الجمهورية الثانية أو الذين يجمع بينهم إزاحة الخصم والانتهازية السياسية بحثا عن الوصول غير المدروس الى الحُكم.
3. تحالف عضوي/ موضوعي مع الأحزاب المناهضة للجمهورية الثانية، كان أمرًا محتوما
بقطع النظر عن الحيثيات والتفاصيل الرتيبة التي تطغى على خطاب التيار، وكانّ إدارة الانتقال الديمقراطي قائمة على قصص شخصية مايكرو-اجتماعية،(***) فقد أرغم الحزبَ الاول على الاستجابة لأغلب شروطه التفاوضية التي تتجاوز حجمَه والخارجة عن العُرف الديموقراطي مع إضاعة وقت ثمين ليناور في آخر لحظة برفض الانضمام الى حكومة الجملي الأولى بسبب "الرجوع الى مؤسّسات الحزب" وكأنّ المفاوضَ الذي هو المسؤول الأول للحزب لم تكن له صلاحيات التفاوض التي لم يعلن عنها. ثم يستثمر ذلك إعلاميا بأنّ هناك ديموقراطية داخلية في الحزب ويقدم التبريرات بأنّ "التيّارين" قاموا بذلك لمصلحة تونس ولكن بإضاعة وقت ثمين للبلاد استمرّت تداعياته أشهر طويلة من عدم الاستقرار وتضخيم الحيثيات.
ثم بعد الإعلان باستحالة الانضمام الى حكومة فبها النهضة، نجدُهم في حكومة الفخفاخ التي تضمّ تسعة وزراء من النهضة في ائتلاف حكومي هشّ، ساهم التيار – الى جانب رئيس الحكومة المُكلّف وأحزاب أخرى– بقسط في هشاشته خلال المفاوضات في توزيع الحقائب الوزارية! ثمّ يقدّم قبوله بالانضمام الى الحكومة على أنّه لمصلحة تونس ولكن تجنّبا لحل البرلمان في نفس الوقت! فإذا كانت المواقف غير مستقرة وخاضعة للأحداث وتطوراتها ولموازين القوى المتغيرة، فانّ الاستقرار انما هو في اتخاذ الحزب نفس الموقع في تسجيل النقاط السياسية والترويج الإعلامي القائم على تبرير وانتقاد وفي بعض الأحيان تجريح الخصم في توجّه يكاد يكون عاما لدى اغلب الأحزاب السياسية متضمنا للعنف اللفظي المتداول بين الانصار، وهو المستفيد سياسيا في كل الحالات مهما تضاءلت حظوظ نجاح الانتقال الديموقراطي.
4. خط ردود أفعال يطغى على المبادرات الابتكارية
كانت مبادرات "التيار" ردودَ أفعال – حتى لقلق الخصم(****) وليست ابتكارية لأنّنا لا نرى لها بُعدًا طويل الأمد. فلائحة سحب الثقة من رئيس المجلس جاءت تباعًا للائحة سحب الثقة من الفخفاخ، وكأنّ الثانية كانت ردّة فعل للأولى حيث أخذ الحزب بالدفاع عن رئيس الحكومة باحتشامٍ في مرحلة أولى ثمّ صراحةً في مرحلة ثانية بالقول إنّ "اسقاط حكومة الفخفاخ لم يكن سيبُه شبةَ الفساد" وهنا يقصدون الخصم السياسي الأهم (الترويكا البرلمانية) التي بادرت بلائحة سحب الثقة، ولكن كذلك الرئيسَ قيس سعيّد الذي أعلن من جهته عن طلبه الفحفاخ بالاستقالة في نفس اليوم ساحبا بالتالي مبادرة سحب الثقة من الفخفاخ مستفيدا سياسيا من غياب المحكمة الدستورية للانفراد بتأويل الدستور، علما وانّ العلاقات بين مؤسستي رئاسة المجلس ورئاسة الجمهورية متوترة وتكاد تكون منعدمة.
ولكن لم نر أن قرار لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس الذي تم الاعداد اليه واقرارُه قبل أسابيع قد صادقت عليه "هياكل الحزب" منذ ذلك الحين! مع علم التيار جيّدا بان حجمه لا يمكنه من إنجاح المناورة الا بتحالف مع كتل اخرى تختلف معه في النظر والممارسة والأهداف. اي انه كان متأكدا بضرورة وضع اليد في يدِ من يناور لإفشال التجربة الديموقراطية وارباكها وان سحب الثقة من الرئيس – الذي لا ندافع عنه شخصيا – لن تحل مشكلات الهشاشة المؤسسية الحالية في الدولة وأنه لا يهم المواطن بدرجة أولى، وأنّ كل "الشطحات البرلمانية" ستكون على حساب اجندة الانتقال الديموقراطي برمّته ولفائدة معارضي الجمهورية الثانية. لذلك كان نحالف التيار مع الدستوري الحر "موضوعيا" ان لم يكن "عضويا" مُفاجئا ومحلّ خيبةٍ لدى جزء من المتعاطفين معه. وقد تكشف الاحداثُ في الأيام القادمة عن نوع هذا التحالف ان كان عضويا أو موضوعيا على معنى عصمت سيف الدولة (1972) في جزء "الأسلوب"، ولكن يبدو أن التيار قد أخطأ الهدف وخسر الكثير بعدم توفيقه بين الأهداف الحزبية من جهة ودوره في المساهمة في تمتين المسار الانتقالي من جهة أخرى، وقد يقوم بقفزة الى الامام بتعاضده مع مكونات حزبية ليست من جنسه إذا بقي في نفس الرواق واضعا رِجلا هنا ورجلا هناك، وقد يتحرف عن أفضل المسارات.
وفي المحصّلة، قد يكون من المهم دراسة الدوافع التي جعلت من اليسار أحزابا مشتتة بالرغم من عدم التجديد في الفكر الماركسي وعدم تحديثه وعدم التعبير عن ضرورة قيامه بمراجعات؛ أحزابٌ لم يتعدّ حجمها حدّا معينا، ولم تنجح في إرساء حاضنة اجتماعية بالرغم من تبنيها قيم التقدم والحداثة.
فهل يرجع ذلك الى تسرّعها للوصول الى الحكم حتى ولو تحالفت مع نظام قائم على الريع، أم انّها مُخطئة في تحديد الخصم أم انّ نفي الاخر أيديولوجيا واعتباره معرقلا للمسار التصاعدي للتاريخ –كما جاءت في الادبيات الماركسية– واقتباسه استراتيجية "خلق العدو" وافتعال محور نضال مثلما كان الامر في الجامعة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، يتمّ التحرك من خلاله، حتى ولو كان ذلك على حساب متطلبات الانتقال الديموقراطي، هي التي اختزلت خيبات اليسار المتكررة في تونس؟ والى متى سيتواصل الفعل السياسي متجها نحو الخصوم دون مصلحة البلاد؟
(*) قناة قرطاج+. 17 فيفري-2020.
(**) القناة الوطنية الأولى مساء الاثنين 13 جويلية 2020
(***) الأمثلة كثيرة مثل مداخلة النائبة هن التيار في الحلسة العامة المخصصة لقانون توظيف العاطلين
عن العمل، عندما اخذت مداخلة نقطة نظام للتنديد بتدوينه في الفيس-بك!
(****) تصريح قيادي بالتيار عن ام "النهضة قلقة من التيار"
المراجع
1. Lipset, S. M. (1959): ‘’Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy’’ The American Political Science Review, Vol. 53, No. 1 Mar. 69-105
2. Almond, G., & Verba, S. (1963). The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations. Princeton, New Jersey: Princeton University Press. doi:10.2307/j.ctt183pnr2
3. Moore, Jr. B. (1966): ‘’Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Makin of the Modern World’’. Boston: Beacon Press.
4. Huntington, S. P. (1991): ‘’The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century’’, University of Oklahoma Press
5. نظرية الثورة العربية (سبعة أجزاء) 1972عصمت سيف الدولة. دار المسيرة للطباعة والنشر