"مشروع البناء القاعدي أو الديمقراطية القاعدية (..) لا يحتاج إلى اقناع أعدائه بوجاهة هذا المشروع ...لقد حانت لحظةُ الفرز ولا مجال (..) إلى الخلط بين الحق في الاختلاف والسّعي (..) الى تحقيق منافع خاصة".
هكذا عبّر رضا لينين جليًّا عن بعض المطبّات التي وقع فيها اجمالاً "العقلُ السياسي" في تونس منذُ عشرات السّنين، وطفحت تعابيرُها على السّطح وتعاظمت الى أن وصلت النخبة السياسية الى ما هي فيه اليوم من عجز في الفعل وزَجّ بالجيل المتعاقب في معارك عفا عليها الزمن؛ معارك ايديولوجية -لا ناقة له فيها ولا جمل، فَتَحتْ البابَ على مصراعيه لكل سيناريوهات، أقلّها تكلفةً كارثيٌ، ومن اهم هذه المطبّات:
(1) الفشل في المسار المعرفي (Cognitive process failure)، اذْ يدعو رضا لينين الى "الديموقراطية" -بقطع النظر عن كونها قاعدية أو رأسية- التي لا تحتاج الى "اقناع الآخرين"، بل الى نَفْيِهِمْ وعدمِ قبولهم باعتبار إيّاهم “أعداء" لا شُركاء في الوطن وفي المنتظم الاجتماعي. وهذا لا يصحّ معرفيا الاّ إذا كان صاحبُ القول محتكرا للعلم والمعرفة والحكمة، منتجًا ايّاها من لدُنْه.
لا تُقيَّمُ ولا تُخالَفُ لأنها "لحظة فرز" أقرّها عنايته بوحي مقدس، اذْ انّ الحديث عنها لا يصحّ إلاّ "بالتفسير" وليس "بالنقاش والمحاورة" وكأنّه خاصّ بقُصّرٍ فاقدي مَلَكة التمييز. فإذا كان أستاذًا في موقعه، فانّ المتعلّمين منه لن يسبقوه في العلم وبالتالي لن يتطوّر العلمُ عبر الاجيال، وإذا كان راهبا فانّه سيُنتج مُريدين كالببغاوات غير قادرة على الطيران بأجنحتها، وإذا كان قائدَ جيش فانّه سيجني الهزائم باعتبار عدم انخراط جنوده في صياغة استراتيجية المعركة.
واعتقد أنّ هذا "الفشل في المسار المعرفي" إنّما هو من ملامح العديد من المنخرطين في الشأن العام من سياسيين وصُنّاع رأي ذوي المواقف الانتقائية والمنسابتية، أي تتغيّر حسب السياقات والمصالح والتحالفات الى حدّ تحويل البديهيات الى محاور جدال عقيم. فالذين طالبوا بالتحرّر هم الذين انتقْوها لفئة دون أخرى عندما اعتلوْا الحكم ابّان الاستقلال ... ومن الذين تصدّروا الدفاع على الديموقراطية زمن بن علي هم الذين دفعوا نحو التفعيل المسلّح للفصل 80 من الدّستور قبل أن يتراجعوا عن ذلك مؤخرا، ...فالمواقف السياسية تتغيّر بطبعها، لكن ليس على حساب المبادئ المُعلنة.
(2) نكران الديموقراطية في أسُسها، ذلك أنّ رضا لينين يعتبر في التدوينة أعلاه ان "الحق في الاختلاف لا يجب ان يختلط مع الحق في تحقيق منافع خاصة" متّجها بذلك الى المختلفين معه ! ومهما نُعتت الاشكال المختلفة للديموقراطية الليبرالية بانّها "بورجوازية" فان ذلك لا يبرّر البتّة الغاءَ أُسُسها الدّنيا.
وهذا حكمٌ لا يرتقي الى علميّة الخطاب لانّه حُكم بالنوايا، اذْ في السياسة وفي إدارة الشأن العام لا يمكن الفصل بين المنافع الخاصّة والمشتركة الاّ بأدوات الحوْكمة ومؤسّسات الدولة المستقلّة، وأنّ النخبة السياسية مهما كانت، ليست من الملائكة، ولا يمكن اعتبار هذا الحكم صحيحا الاّ إذا كان صاحبُه في حدّ ذاته مَلكا.
فجوهر الديموقراطية في معناها البدائي هي إدارة الاختلاف والقبول بالآخر دون اعتماد ما ولج في صُدور المختلفين من نوايا. وقد سادت هذه الطريقة في تصنيف المُخالفين للرّأي في القضايا المشتركة الخطابَ الرّسمي منذ انقلاب 87 الذي احتكر "حِمى الدّين والوطن" وكذلك "منابع الحكمة" وجُرعة الحريات بتحديد نسبة المعارضة -الكرتونية- في البرلمان.
وقد أثّر ذلك في الوعي الجمعي عَشريّتيْن أيّما تأثيرا الى حدّ تجريم المنتقدين" والمناهضين لتسطيح الوعي ونبذهم حتى من بعض الدوائر الاجتماعية. وقد نرى من مخلّفاته العنفَ الاجتماعي الحالي المسلّط على كلّ مُخالف للرأي وكأنّ ذلك بات معطى اجتماعيا وثقافيا تُنتهك من خلال الذواتُ بدون أيّ إدانةٍ من الجهات الرّسمية !
(3) محدودية الإدراك والسطحية في الفهم وعدم القدرة على التعامل مع الأدبيات والتجارب ذات العلاقة. فزيادةُ نعت "قاعدي" للبناء، انّما يتعلّق بالطريقة أو الاسلوب المُقترح لبناء الديموقراطية وليست الديموقراطية في حدّ ذاتها.
وهُنا مطبٌ منهجي خَطِرٌ – يشوب بعضَ الاعمال العلمية للباحثين الشبان- وهو الخلط بين "الموضوع" من جهة و"الأسلوب" (أو المنهجية) من جهة أخرى؛ مطبٌ لطالما سقط فيه العديدُ من المتخصّصين في القانون الدستوري الذين ملأوا الفضاء الإعلامي بتركيبات لغوية يغلب عليها طابع السفسطة، فأطنبوا في اجراءات (الاسلوب) الحُكم ونسوا الديموقراطية (الموضوع) التي لم تُبنَ في عالمنا الحاضر الاّ من خلال حريّة التنظم الحزبي، واذاك باعتبارهم أنّ الازمة في تونس اختُزلت في الاختلاف في فهم جملة باللغة العربية البسيطة احتوت الفصل 80؛ تركيبات لغوية لا يستسيغها الاّ الذين يريدون الاستماع اليها والمروّجون لها، ولا يدافع عنها الا مناوئ او يائس من واقع مسدود الأفق.
وأمّا إذا استُلْهمَ "البناءُ القاعدي" من مبادرة روزا ليكسومبوغ -مؤسّسة الحزب الشيوعي الألماني- ابان الثورة، أو من السوفياتات القطاعية ابان ثورة 1905-1917، أو من التنسيقيات الجهوية الماويّة في الصين، وهؤلاء (روزا وتروتسكي وماو تسيتونغ) ليسوا أصحاب فكر عاديين.
بل كانوا مسيطرين على الفكر الماركسي وقادةَ فكر وشعوب في زمانهم. ولكن التطورات التاريخية والاجتماعية أبرزت فشل هذه التنسيقيات، ناهياك وأنّ شرطها الاوّل وهو تعميم الوعي بالانتماء الطبقي للقيادة الشعبية (دكتاتورية البروليتاريا) لمرحلة الاشتراكية حيث يتجاوز تطورُ قوى الانتاج العلاقاتِ الاجتماعيةَ السائدة، لا أظنُّه متوفّرا حاليا في تونس.
ولذلك تكون قصّة التنسيقيات والبناء القاعدي بالطريقة الفجّة المطروحة -كما بينّا ذلك في اول تعليق- خارج التاريخ بالمنطق الماركسي اللينيني، فضلا عن مخاطرها في التفريق بين المواطنين وتعزيز النزعات الجهوية وما تسمح به من تكوين بُؤر الفساد للمال العام في التسلسل الهرمي على غرار التجربة الصينية والليبية.
فإلى متى ستبقى تونس مجالا ومسرحًا للتجارب السطحية؟ والى اي حدّ سيتماسك اقتصادها ومجتمعها ومؤسساتها؟