لم تُثبتْ ثوراتُ القرن العشرين المتأخّرة انخراط غالبية الشعوب في التغيير الاجتماعي الذي كان مُدارًا من قِبل النُّخب، سواءً من الاسفل الى الاعلى، او العكس، او كذلك بدوافع خارجية. وقد يتساءل البعض بحيْرةٍ كيف لشعبٍ ان يفرّط في فرصةٍ تاريخية -قد لا تُعاد لعهود- لإعادة التشكيل واتباع طريق الازدهار والتخلّص من التبلّد الفكري المُروّج من قبل الجهاز الاوتوقراطي ومن التوزيع غير المتكافئ للثروات واصولها، ومن وضع "ماتحت المواطن"" و"وما تحت الدولة"، والحال انّ التجارب العالمية متاحةٌ بوفرة الى غاية التنبّؤ المؤكّد بالتحديات المستقبلية في كل حالة وفي كل مرحلة.
وبقطع النظر عن الاجابات الكلاسيكية المتعلّقة ب :
(1) محدودية موارد الدخل الفردي وعدم استدامته، الامر الذي يجعله مكبّل الارادة وخاضعًا لارادة الدولة حتى وان كانت عاجزة،
(2) ارتهانه لأُكلة ثقافية يومية تشتت ذهنه وتطمس وعيه وتبعثر اولوياته في الزمن وعبر الزمن،
(3) لمعاناته اليومية في قضاء حاجاته والتي تنهك طاقته،
(4) لعدم ثقته بالمستقبل وتوتّرِ علاقته مع الدولة،
(5) لتراجع النخب المثقفة عن ادوارها الطبيعية في تعميق فهم القضايا المشتركة،
(6) للعقد المتواصل بين الدولة ومجموعات الضغط حول مفتاح توزيع الريع الاجتماعي بحيث تحتكر الدولة فهم الواقع -عبر اذرعتها من خطاب رسمي وقوة صلبة واعوان يعملون في فلكها مقابل فُتاة من الدخل- من جهة، وتستحوذ مجموعات الضغط من جهة اخرى على الريع وتوزيعه بدعمها الدولة ومن خلال الحماية من هذه الاخيرة وتقاسم القطاعات المربحة والاستحواذ عليها ومراكمة رأسالمال ومن ثمّة التاثير على القرار السياسي….
بقطع النظر عن هذه العوامل الكلاسيكية، فانّ النخب السياسية المتطلّعة للتغيير باتت قاصرا على ذلك ومتعثّرةً في مسارها ويبدو ذلك من خلال،
(1) عدم قدرتها على التحالف مع النخب المثقفة الواسعة واشراكها لا في التفكير ولا في الفعل السياسي، ذلك انها لم تكن خلاّقةً، بل تميل نحو اعادة توالد النموذج الاجتماعي والمؤسسي وانخراطها الضمني في النظام السائد بثغراته.
(2) عدم استعدادها للمغامرة السياسية والفكرية، وكأنها شاخت وهرمت عند الولادة. فلا ادبيات تحليلية للواقع الاجتماعي صادرة من احزاب سياسية ولا دراسات اقتصادية مستقبلية ولا خطاب جدّي عميق تقارَع من خلاله الافكارْ وتتحدّد منه التوجهات العامة ورهاناتها.
(3) الخضوع للواقع عوض اخضاعه للإرادة السياسية، وهذا جليّ في خطاب الاحزاب السياسية الذي يغلب عليه التوصيف الصّحفي للواقع عوضًا عن الوقوف على اسبابه والانطلاق نحو التعبئة. فالحديث عن الفساد كان بانوراميّا، وعن الاقتصاد وصفًا وتكرارا ركيكا لمعطيات سطحية، وعن المجتمع وشروط توالده الموضوعية كان غائبا تماما، وكذلك عن الثقافة والنقابة والازمات العالمية.
(4) الخضوع للأيديولوجيا المتمثلة في الغشاء الذي يحجب رؤية مكونات الواقع ويمنع بالتالي مجابهته. فكان الحديث عن الثقافة مرتبطا بالنمط الهووي وتخويف الناس من مغباته او تمييع وتعويم القضايا الجدية، والحديث في السياسة متمحورا حول التنكيل بالخصم لتسجيل نقاط سهلة، وفي النقابة محطّةً للضغط السياسي، وكانّ السلطة عادت بنا لما قاله العرب انها "بين حلاوة الرضاع ومرارة الفطام".
أخيرا، لا بدّ ان تلعب كل جهة دورها التصحيحي وان يتعلّم التونسي ان الحركة الجماعية لا ترتقي اليها لا بطولات فردية وهمية ولا انتظار الى ان تنجلي العقبات، لان هذه الاخيرة تتراك طالما يسيطر "الانا" على العقل السياسي.