في أواخر الثمانينات، تصاعدت الصراعات في المعاهد الثانوية وفي الجامعة بين الشقّين اليساري والإسلامي الى حدّ العنف المادي، كما توسّعت دائرة هذا العنف خارج الجامعة بما في ذلك من صدام مباشر مع السلطة.. ولئن كان صدامًا – كما يُتداول ضمن الناس في ذلك الوقت- حول بعض الشعائر مثل الصيام وفق رؤية الهلال وصلاة العيد قبل أو بعد يومٍ، وارتداء الحجاب والمُصافحة -مسائل قد لا يرى فيها أبناء الجيل الحالي أهميّةً وهي كذلك بطبيعة الحال- جنّدت لها السلطة أدواتها القانونية (منشور 108 الذي يمنع اللباس "الطائفي") والماديّة، والإعلامية والمخابراتية والحزبية، وجعل منها التيارُ الإسلامي محورًا للمطالبة بالحريات العامّة والشخصية، فانّ القضية تبدو أعمق من ذلك وليست موضوعنا الان...
ولكن اللافت للانتباه أنّ في ذلك الوقت كانت مجموعاتٌ أخرى متديّنةٌ ناشطةً في الاحياء الشعبية، تتجوّل في الفضاء العام بكل حرّية، ترتدي هذا "اللباس الطائفي"، تتردّد على الإدارة والمعاهد والكليات والمطارات والمستشفيات والأسواق، ولكن لم تكن ممنوعة من القيام بأنشطتها الشعائرية.. وكان هناك طيف آخر من هؤلاء، يظهرون باللباس التقليدي التونسي (الجبّة والكونترا والبلغة والشاشية وغالبا مع مسبحة في اليد، و"جال" في الشعر، ...)، تجدهم في مقدّمة مناشط سيدي بالحسن، وسيدي بوسعيد، وفي احتفالات المولد النبوي الشريف والاعياد الدينية. تُخصّص لهم منابر تلفازية في رمضان للحديث في أمور الدين بطريقة تقليدية تكاد تكون مصطنعة...
ثمّ جاءت بداية التسعينات وحرب الخليج، واستثمار صدّام حسين في "البُعد الديني" – كما يفعل غالب السياسيين، مثل بوتين وغيره- لتعبئة عواطف الناس بتغييره عَلَمَ بلاده مُضيفا فيه كلمة "الله أكبر". وتابعت السلطة في تونس هذا المنحى -في ظل ضغوط الطلبة والاساتذة والمسيرات ذات النزعة القومية وسط العاصمة- بخطاب "ثوري" قاله بن علي في ذلك الوقت حول القوى المُهيمنة في العالم، ما لم يقٌله ربّما لينين في كتابه "الإمبريالية، المرحلة العليا للرأسمالية". وفي ذلك السياق، جاءت "الحضرة" وهي الحدث الفني البارز الذي قال فيها أحدُ القائمين عليها بعد أكثر من عقديْن -وهو ليس واعٍ بما قال- إنّ السلطة اتصلت به للترويح عن التونسيين الذين يمرون "يضغط نفسي"..
وبقطع النظر عن الطاقات الفنية العالية للمُطربين الذين كانوا في قمّة عطائهم مثل بوشناق وشُعيْب وصْلاح "الكفيف" وشيوخ السُلاميّة من فرقة بنزرت والقيروان وغيرهم كثير، كانت الحضرة والنوبة في آخر المطاف وجها من وجوه الاستحواذ على جزء من التراث الديني، كما يرى البعض. اذْ المنتج لم يؤلّف ولم يلحّن ولو جملة واحدة، فضلا عن عدم انتاجه للمحتوى- بل كان تطويعًا للتراث الديني في بُعده الصوفي لقراءة سطحية جافّة، يختلط من خلالها الالتزامُ العقدي وقُدُسيةُ معانيه الروحية ونقاءُ ارتقائه بالإنسان من جهة، والتعابير الثقافية من جهة أخرى لأزمةِ الفرد وحاجته لإعلاء صوته وتحقيق ذاته المرتبكة بين تُراث جُمّد في العقول ومعاصرةٍ "فاتها القطار"، تفضي الى "ارتياحه" بعد العرض سواء من مسرحية "السردوك" للنهدي أو "نخبك يا وطن" لدُريْد لحًام" أو "مدرسة المشاغبين" لعادل أمام، تحت أنظمة شمولية- وهذا لا يقلل بطبيعة الحال من دور هؤلاء…
فلا استغراب عندما يتحدّث هذا عن بكاء جذع شجرة أما الرسول الاكرم، ويشهد الضبُّ بنبوءته بصفة مسقطة لا تنطلي الاّ على الخَبّ. وقد تكون أداةً تخدم مصلحة السلطة بسحب البساط أمام النخبة المُفكّرة حول واقعها الاجتماعي والثقافي والهووي، حتى وان كان ثمنُ ذلك التصحّرَ الثقافي والتبلّد الذهني والغيبوبة تجاه التحديّات الحقيقية.