"رمَى" البعضُ آراءَ الآخرين "بالنظرية" ولذلك هي "هزيلة" في تفسير الواقع الاقتصادي. وهْو حُكمٌ انطباعيّ، خفيفٌ في اللّسان ولكنّه نافذ في الفضاء العام، بحيث يمُسّ من صدقيّة الشخص المعني "بالنظرية"، وبكلّ المتخصّصين والجامعيين المتدخّلين في الشأن العام. ولكن في سياق تعطّش عمُوم النّاس لفهم الاقتصاد والقانون والسياسة وغيرها من الميادين التي تستدعي اختصاصًا، فإنّ رُوّاد وصُنّاع الرأي أضحوْا في غالبيّتهم يتكلّمون في الفضاء العام بطريقةٍ مُبسّطة جدّا لغاية "تسطيح المسائل" و"تعويمها"، بدون التّقيّد ضمنيًا بخلفية نظريّةٍ أو ما منحه مجالُ الاختصاص من وسائل تؤطّر منهجيتهم وترتقي بتحليلاتهم وتساعد على فهم الواقع في جوهره. وفي الواقع، لا مهرب من "النظرية" عند معالجة أيّ موضوع واقعي مُعقّد، "لأنّه ليس هناك شيءٌ ملموسٌ أكثر من نظرية جيّدة" مثلما قال انشتاين.
و"النظريّةُ" لا تعني التعقيد والتّرف الفكري أو إعادة ما قِيل في الكُتب أو المقالات العلميّة، بل هي تلك العمليّة التي يقوم بها الفكرُ لكي يجرّد الواقع المُعقّد من العناصر التي تبدُو غيرَ مُهمّة وتُمكّن من تحديد العلاقات بين ما تبقّى منها. فبمجرّد ذكر "نسبة نمو" أو "مؤشّر الاسعار" في ستوديو اعلامي، فإنّ عمليّة التجريد قد تمّت، ولكن تبقى عمليّة ايجادِ العلاقة بين هذا وذاك والتي تخضع في حدّ ذاتها الى تجريد آخر، اذْ لا يُمكن مثلاً فهمُ علاقة نسبة الفائدة بالنّمو الاقتصادي وتحوّل سعر الصّرف، وعلاقة كل ذلك بالتضخّم والبطالة، ولا يمكن التنبّؤ بعدم استدامة الدّين أو باستدامة النّمو الاقتصادي إلاّ من خلال إطار نظري مُسبق يمنح للمتحدّث المفاهيم الملائمة والاستدلالات الضرورية، علاوةً على اطّلاعه بالواقع.
ولا يمكن كذلك فهم وتصوّر مآلات البلد والاستثناء الدستوري بالتقيّد بفصول قانونية بمعزل عن "نظرية الدّولة" و"علم الاجتماع السياسي" وغيرهما من المجالات الفكرية، وإلاّ فانّ التعاطي مع الواقع سيكون "اجرائيّا جافّا" بقراءةٍ مُسْقطة قد تُغيّره بدون أن تُصْلِحَه. ومن المستحيل أن نفهم الاستراتيجيات الاوروبية في العالم وجوهر العلاقات الاسترالية الامريكية البريطانية بمعزل عن نظرية الدّولة الراسمالية وتوسّعها في نطاق جغرافي مُعوْلَم والشّرَاكات غير المُعلنة بين أقطابها….
"فالنظرية" بهذا المعنى تُمكّن من تعميق الفهم للواقع لأنّها كانت نِتاجَ تفكير عميقٍ قام به أصحابُها دون السّواد الاعظم من النّاس، وتميّزوا في محاولاتِهم فهمَ طبيعة البشر وكذلك في فهم المادّة والقوانين التي تسودهما، كما تُمكّن النظريةُ من استباق الواقع وتحديد جزء من ملامح مآلاته بقدر ما كانت -هذه النظريّة- جيّدةً ومُحدَّثة.
وليست السّيطرةُ على كلّ النظريات ضروريّةً بقدر ما علينا ان نستأنس ببعضٍ منها أو من دروسها المستفادة مع التنسيب بطبيعة الحال مع خصوصيات الواقع.
وهناك جانبٌ آخر مُهمّ، وهو ذلك المتعلّق بالقُدرة على اختيار إطار نظري على آخر للاستئناس به في معالجة الواقع، حتى نتجنّب "التّيه في الطبيعة" اثناء الحديث وألاّ نعرف متى وكيف ننتهي مثل العديد من المتحدثين في الشأن العام في قضايا تبدو سهلة المعالجة. فتُصبح قضيةُ العجز العمومي نشاطا لتجميع الاموال والتقليص من المصاريف، ومجابهةُ البطالة تتم بخلق المؤسّسات الانتاجية، والسيطرةُ على التضخّم بالضغط على الطلب... وهو منحىً جُزئيٌّ، لا يأخذ بالاعتبار الجوانب المتعدّدة للمسألة ولا يخضع بالضرورة الى ما جاء بع علم الاقتصاد الحديث، رُغم أنّه يبدو سهلَ الفهم في الاعلام ولدى العامّة وكذلك عند بعض صُنّاع القرار.
والدّليل على ذلك انّ نفس هذه المقولات المُحاكية للسطحية تكرّرت عشرات المرّات في كلّ المنابر بدون استثناء ومع ذلك لم يتمّ دفعُ النّمو ولا السيطرة على العجز ولا على المديونية ولا على التضخم ولا بطيخ في فترات كانت كافيةً لذلك.. وهذا إشكال منهجيّ وبيداغوجي لا يتجاوزُه إلاّ المسيطرون على الموضوع وخلفياته النظرية وكذلك النّزهاء. ذلك انه عندما يستمع عموم الناس الى كبار العلماء في الاقتصاد، يفهمون المشكل بالرّغم من من تعقيداته :"كروغمان" في س-ان-ان كل يوم السبت حول أزمة الرهن العقاري طيلة عام 2009-2010، "رومر"، في شبكة "تيد" وحديثه عن "المُدن المستأجرة" ودورها في النمو غير المتوازن…. والسّببُ، لا يكم في قدراتهم البيداغوجية فحسب، بل وكذلك في تعلّقِ كلٍّ منهم بإطار نظري مُعيّن في علم الاقتصاد لا يفصحون عنه الاّ اذا اقتضى الامر لذلك، وهذه دعوةٌ الى اقتصاديينا الشبّان بالتمسّك بمراجع نظرية ثابتة في تفسيرهم لإنتاجاتهم التطبيقية وفي فهم واقعهم الاقتصادي، وهو مدعاة الى اثراء النقاشات مع الذين يتبنّون أطرا نظريةً مختلفة.