تكررت كلمة "التوازن في المشهد السياسي" عدّة مرات كغيرها من الكلمات مثل "الإصلاحات" و "الاستقلالية" و "الانتقال السياسي ثم الاقتصادي" و"العقد الاجتماعي" و "تعافي الاقتصاد "، و"الحوار الوطني" و " محاربة الفساد، كالوحدة المغاربية، تُفضي الى نُقطتيْ نمو وأنّ إحداهما تُولّدُ ثمانين ألف موطن شغل"، .... حتى أصبح فحواها غيرُ الدقيق حقيقةً لا تخلو منها التصريحات.
وقد تبنّاها جزء من "النخبة" أو الذين يعلنون أنفسَهم ضمنها. ولعلّ استعمال المصطلحات غير الدقيقة متأتٍّ من قلّة الاختصاص وأكثر من ذلك الترويج السياسي. وقد لا يسع المجال لتوضيح خواء المصطلحات المذكورة أعلاه وتداعياتها السلبية على الوعي الجمعي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الفعلية، فاني اقتصر على "التوازن في المشهد السياسي"، هذا المصطلح العجيب الذي اعتبره العديدون هدفا في حد ذاته ومكسبا للتونسيين خلال الانتقال، في حين انه كلّف التونسيين الكثير، فضلا عن المخاطر المؤكدة التي افرزها هذا المصطلح على أرض الواقع ذات 2013.
واعتقد انه لولا الرئيس الراحل لحصل المكروه في أول صدمة تلقاها الحزب الحاكم في عام 2016 حيث رُفعت العصي بين الشقوق…
قد يكون للتوازن السياسي بين المتنافسين معنىً وأثرٌ إيجابيٌ على استقرار البلاد وتمتين مسار الانتقال والتداول على السلطة. لكنّه عندما يكون "توزنا احصائيا" صوريا :
(1) لا تتساوى فيه الأحزاب السياسية من حيث التشبث بقيم الجمهورية وقواعد اللّعبة الديموقراطية (داخل وخارج المؤسسات) وتغليب مقتضيات الانتقال،
(2) لا يجمع بين مكونات اطرافه إلا الغاء الاخر بتعبئة كل الطاقات المالية والإعلامية، فان هذا التوازن يظل هشا لأنه ليس نتيجةً لمسار طويل استقر عند مكونيْن رئيسييْن للمشهد السياسي مثلما هو الحال في بريطانيا أو أمريكا... فالتوازن الحقيقي في المشهد السياسي هو توازن في عُمق البرامج السياسية والطروحات، وتنافس في المقاربات الفكرية وفي البدائل. توازن في القرب من مشاغل الناس اليومية وفي توسيع نطاق الثقة بين النخبة السياسية والشعب…
ولذلك، لا أتماهى مع بعض الأقلام الحالية التي تدعو الى ضرورة رص الصفوف لتحقيق "التوازن في المشهد السياسي"، مُعلنين حربا ايديولوجيةً عقِيمة لا يستفاد منها إلا المتربصون بالبلاد، وقودُها تزييف وعي الناس وروادها وجوه مُستهلكة، في حين اثبتت الاشغال العلمية عدم جدوى التصادمات الأيديولوجية في تحقيق التنمية للمواطنين كشرط لازم لاستكمال الانتقال.
أعتقد اننا بحاجة الى نخبة عميقة التفكير، جامعَةٍ، تشرّبت من مناهل الحكمة بما يمكّنها من الشهادة العادلة على عصرها، لا تستهويها المناصب السياسية وليست مدعوة بالضرورة الى ذلك، بقدر ما هي مدعوة الى احداث توازن وتعميق في الوعي بدون ان تُغريها المصلحة الآنية ولا تستثمر حبًّ الظهور وتسليع المواقف والسير على أطراف الاقدام، وتكون ثابتةً على نهجها المواطني، كما اعتقد انه اذا لم تكن النخبة الحالية كذلك، فان الاجيال الصاعدة هي التي تتكلف حتما بذلك.