قد يمرّ المرء ُبمراحل ظرفية في حياته: اهتمامات شخصية، سفر، شغل، توعّـك صحي، خيبة أمل في بعض الصّداقات، انتكاسات لما يراه في العالم من تعدد الأحداث المروعة باتت أخبارا متنوعة لدى البعض، ولكن للنشر وجب توافر المعلومات والاخبار الدقيقة مع متابعتها يوميا، وهذا يحتاج الى شيئ من التركيز.
هذا، ويجد الفردُ نفسه بصدد اعادة الافكار والنشريات، وفي بعض الأحيان بنفس الالفاظ والجُمل خاصّةً في تشخيص الواقع ولكن بدون جدوى مثل الإشارات المتكررة الى :
(1) ضرورة استثمار فضاء الحريات وتنميتــه قبل أن يضيق نطاقُه؛ فضاءٌ استُــثمِر في السطحيات وبالنكـِـرات، أو
(2) الى ضرورة جعل المسألة الاقتصادية أولويــةً قبل أن تصبح عبئا وعائقا في الانتقال مثل عدم استدامة الدين منذ سنوات، أو فقدان نجاعة السياسة النقدية منذ اكثر من عشر سنوات، أو غياب سياسات صناعية وتجارية حقيقية، أو مراجعة الخريطة المناطقية للبلاد للحدّ من الهجرة الداخلية ومن انتعاش القطاع الموازي والسوق السوداء، او فشل إدارة ازمة الكورونا، او
(3) مُجابهة الثنائيات التصنيفية المُفتعلة والتي تفرّق بين التونسيين والتي تخدم اجندات أيديولوجية وممتهني البحثَ عن مُــراكمة الرّيع في آخر المطاف،
(4) أو الى دعوة الجامعيين بوصفهم جزءً هاما من النخبة الى تحمّــل مسؤوليات ريادية في الانتقال بالأخذ بزمام المبادرة وعدم لعب أدوار سلبية بمتابعة الاحداث كسائر الصحفيين المُبتدئين...
وقد يعود الشعور بعدم الجدوى من الكتابة والنشر الى عدّة أسباب منها :
-(1)- ركُــون البعض الى منطقة راحتهم (Zone de confort) مــمّا يدفعهم الى الحفاظ على نفس الأفكار الرتيبة والسطحية ويُجنّــبُهم بالتالي تبنّــي الأفكار المؤدّية بالضرورة الى الانخراط في تغيير الواقع، حتى لو كانت هذه الأفكار مُبــرَّرةً علميًّا، بديهيةً ونافذةً كما جاء في أدبيات سوسيولوجيا المجموعات. وكما أنّ هناك أقليّةً عميقةَ ومستقلّةَ التفكير، تُــبرهن عن وعيها من خلال عدالة ووجاهة مواقفها المنفردة، وهي ليست محلّ ترحاب من الأغلبية كما يشهد على ذلك التاريخ، هناك ايضا من هو مُبرمجٌ على الاستفادة من السّستم مهما كان، ويظهر ذلك في استثماره في العلاقات ذات المصالح الشخصية واقتصاره على ذلك، وهذه الفئة لا يُرجى منها خيرا بطبيعة الحال بحكم تكيّفها مع السستم وخلطها بين "الذكاء" و"الحكمة"!
-(2)- عدم الاستعداد لتحمّل أدنى تكلفة – ولو لبعض الدقائق- للمساهمة في تغيير الواقع وقد أُخاطِرُ نظريا بالقول إنّ أغلبَ التونسيين لم ينخرطوا في أحداث جانفي وأنّ "استمرار وظائف الإدارة" – التي لم تنخرط في موجة التغيير وهي الذراع التنفيذي للدولة- "ذات الكفاءة العالية" آنذاك، كانت سرديةً من وحي اعلام روّج لها بنجاح لشعب فوجئ بالتغيير ولم تُحسن نُخبُه الاستفادة منه، اذْ أنّ عملية التحرر المؤقّت – مهما كان مصدرُها- قد تمّت الاّ أنّ بناء المسار الدائم للحرية (هانا أرندت، 1963) لم يكن في الحسبان،
-(3)- الهشاشة في بناء الشخصية لدى البعض بحكم فشل نظام التعليم وزعزعة الكيان الأسري، اضافةً إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واستحالة الرؤية في الاجل المتوسط والبعيد قد أفضى إلى انعدام الثقة بالاخر فضلا عن الثقة بالنفس…
ولكن هذه القضايا المُشتركة -على اهميتها القصوى- تبدو في طرحها وكأنها ترفٌ فكريٌّ عندما يَــنتقد الكُــلُّ من وراء الشاشة الواقعَ والاخلاقَ والاقتصادَ والسياسةَ وقانون المالية والرياضة وتركيا وقطر والفستق والشعال والرئيس الامريكي والشعانبي والكيان الصهيوني والفرولة في الوطن القبلي والحكومة الليبية وعبد الله بن الحبحاب الذي بنى جامع الزيتونة على أنقاض كنيسة… وفي المُقابل تكاد ترى يوميا الناس يلقون القُــمامة من نوافذ السيارات ولا يحترمون الاولوية في زحمة الطريق وترى كثرة حوانيت الاكلة السريعة غير المحترمة لأبسط قواعد النظافة والصحّة، والعنف اللفظي والمادي في الفضاء العام، والراجلين يمشون في الطريق المُعبّدة عوضا عن الرصيف المملوء بكراسي المقاهي المترامية الأطراف، حيث أنّ فوضى الهندسة والعمران والسلوك دليل على فوضى الأفكار والقيم، فضلا عن استحالة الحديث عن الجمالية والذوق العام والمواطنة…
اخيرا، اتذكر في التسعينات انني كنت أتفكّه في مادة "السياسات الاقتصادية" قائلا إنّ تونس تحتاج الى إعادة النظر في العديد من المجالات. وعندما يسألني الطلبة آنذاك من أين نبدأ، أقول لهم "من وقت الدولة الحفصية".