تتوسّع نظرةُ المجتمعات للواقع نطاقاً وعُمقا كلّما راكمت التجارب والمعارف والوسائل التكنولوجية، فيرتقي وعيُها بالقضايا المشتركة، ويقلّ لديها الحديثُ في المتاهات، وتُكبحُ مجماحُ الهرطقة ضمنها، ويقلّ التطاول على القيم المشتركة والمُكتسبات، ويرتفع منسوب الصرامة والدّقّة في تصريحاتها الرسمية، وحتى في الحديث بين النّاس.
وبقطع النظر عن كون هذا الإطار ناجمًا عن مسار تاريخي طويل فيه الحروب والمآسي والطّواعين، ولكن فيه كذلك الابداعات العلمية والفنية والاكتشافات والانتصارات والاستفادة من الدروس الذاتية حيث "المؤسسة" كانت محورًا في ذلك، فانّه في نفس الوقت دلالة على (١) ارتفاع منسوب العقلانية على حساب العاطفة والانطباع، اللذيْن يضيق بهما المجال في التعاطي مع القضايا المطروحة، بل أكثر من ذلك (٢) رفعٍ في قدرات التجريد بحيث تتبوّءُ "قوّة الحجّة" مكانةً تُغني -ولو جزئيًّا وفي أحيان جمّة- على "حُجّة القوّة". ف(١) يعرف كلّ طرف حجمه ومكانته، و(٢) ولا يتطاول الاقتصادي على الفيزيائي اذا كان الامر فيزيائيا، ولا الرياضي على المؤرّخ، ولا الحدّاد على النجّار، ولا الكرونيكار على القاضي، ولا النكرات على اصحاب الاختصاص.
الا انّ سيطرة "العقل" والتقيّد بقوانين اللعبة المُعلنة، تكاد تكون معدومة تحت سماوات أخرى..
وقد تطغى أولوية "حجّة القوة" على "قوّة الحجّة" كلّما قصُرت المسافة من الواقع الملموس وابتُعِد عن معانيه المتعددة ورسائله المجرّدة. فلا يمكن تحديد ملامح الواقع الملموس الاّ بلمسِه أو رؤيته أو سماعه مباشرة، ولا يتمّ بالتالي فهم معانيه المتعددة والعميقة فضلا عن استيعابه، الاّ بالاقتصار على بعضٍ منه وهو بالضرورة الجزء السطحي أو البسيط منه.
ولذلك، تتصاعد موجات العنف (الذي هو اقتصار للمسافات اللازمة) المادي لدى العامّة كما لدى السلطة، وهي تعبيرة عن مُلامَسة الواقع بالحواس البدائية في لحظة سيطرةِ "المباشرُ" على "غير المباشر" وانعدام الإنسانية أمام الغرائز الحيوانية، وانتفاء قيم الحضارة الإنسانية وما راكمته من حكمة أمام القوانين الحيوانية.
ويحصل هذا على مستوى هرم السلطة عندما تختفي هذه الأخيرة وراء جدار الأيديولوجيا والشعارات الترويجيية، وتخشى مواجهة الحجّة الفكرية بالحجّة الفكرية، فتتوخّى مبدأ حجّة القوّة للوصول الى مبتغاها.
ذلك انّ مواجهة "قوة الحجة" "بحجّة القوة"، انّما هو من قبيل العائق الفكري، ان لم يكن اغترابا ذا اوجه متعددة. فكما يبرر قطّاع الطريق جرائمهم بمآسيهم، يبرّر الحاكم المتسلّط استعماله القوة الصلبة بشرعية احتكار العنف، وكانّ ماكس فيبر لم يقل شيئًا آخر غير ذلك.