لا يمكن مجابهة الازمات على يد رجل واحد في عصر ما بعد الحداثة، لأنّ الفرق بين العُصور يُختزل أساسا في تطوّر "المؤسّسة" التي أصبحت متمحورة أكثر فأكثر حول "المواطن"، وليس حول "فرد" خاضعٌ كِيانُه الى الانتماءات العرقية أو العصبية أو الدموية.
فقد كان لتونس السبق في الاستجابة الى الشروط القبْلية للحداثة قبل غيرها من العديد من المجتمعات العربية وغيرها، وأصبحت مُهيّأةً أكثر من غيرها لإنجاب مواطن أكثر استقلالية في الفكر وفي الفعل وأكثر عقلانيةً ودورًا في المُشترك.
ولنا أن نلاحظ أنّه كلما أوْغلْنا في الحداثة، كلّما غابت الزّعاماتُ الفردية وانعدمت الانتصارات الشخصية واضمحلّت الإنجازات الأسطورية الذاتية. فعُهود "إسكندر" و"حنبل" و"عبد الرحمان الداخل" و"هُولاكو" و"نابوليون" و"رومل" و"هتلر" و"تشرشل" و"هوشي منه" و"سنغور" و" لومومبا" قد ولّت ولن تعود، وأصبح الامرُ متعلّقا لا بمتطلّبات الزعيم المنفرد، وانّما بمتطلّبات المؤسّسة "كحزمة من القواعد الرسمية وغير الرسمية" بشتى أنواعها، سواءً كانت قانونية أو اجتماعية أو سياسية، وأنّ انهيار الأمم بات مرتبطا بانهيار المؤسّسة وقُدراتها التي تتجاوز "الفرد"، أي بانهيار قواعد اللعبة وجودتها، كما جاء عن جيمس روبنسون في "لماذا تسقط الأمم". ولذلك، لا يمكن الاستفادة من الدفع نحو تبديد قواعد اللعبة بدون التضرر منه.
انّ دلالات التباطؤ في تعيين حكومة جديدة بعد أربعين يوما وعدمَ الشروع الفعلي والنظامي في محاربة الفساد وتفادي التوجّه نحو الشعب مباشرة باعتباره أبرز طرف يستوجب المسؤولية أمامه، أنّها ارتباكٌ في المعالجة الإجرائية البحتة التي كانت العنوان الأبرز في قرارات 25 يوليو المثيرة للجدل القانوني، في حين أنّ الانسداد أُزيح من موقعه الأصلي وبات "انسدادا في الحُكم".
فالجنوح نحو التوغّل في الإجراءات الإضافية كالدّخول في "تنظيم انتقالي للسلطات"، والتقدم نحو مشروع استفتاء حول "دستور جديد" يغيّر نمط الحُكم، قد يكون قفزةً الى الامام لترميم الشروخ في بناء شرعية غير مؤكّدة الإنجاز، بما في ذلك من تكاليف سياسية باهضه يتحمّلها كذلك السياسيون الذين دعموه في البداية، ولكن كذلك الذين حافظوا على منطقة الرفاه التي ظنوا انّها لامنتهية النطاق.
أخيرا، ان التعاطي الحالي مع الواقع لا يخدم مصلحة التونسيين، لأنه سينقل حلبة الصراع بالضرورة الى خارج المستحقات الاجتماعية والاقتصادية، وسيدفع نحو الدخول في متاهات إجرائية سطحية لا يقدر على تبريرها السفسطائيون لانّها دمج بين "الموضوع الاصلي" و"طريقة معالجته"، وهو فخّ منهجي خطر، لا يتقبّل تبعاته ذلك المواطن المجرّد المتأمّل الذي لم يقل بعدُ كلمتَه.