ما تم البارحة بين السلطات التونسية والاتحاد الاوروبي ليس شراكةً نهائية وانما كان "اعلانًا عن توقيع مذكرة تفاهم"، اي المرحلة التي تسبق الشراكة الفعلية بين الطرفيْن. ومذكرات التفاهم ليست في الغالب ملزمةً للطرفيْن، بقدر ما يتم عادةً تفعيلها باتفاقيات اخرى مفصلة حسب المجال، كما تخضع الى ارادة الطرفيْن لذلك.
واما عن محتوى مذكرة التفاهم الموجودة بالنت، فإنها تتعلق بمجالات مختلفة. فيها الاقتصادي الكلي، بما في ذلك من دعم مالي وفني، والقطاعي، وكذلك المتعلق بالهجرة وبالطاقة وأيضا الثقافي والعلمي.
وبدون الرجوع الى هذه المحاور، فان اغلبها المتعلق خاصة بالطاقة والزراعة، لا يمكن ان تتفعّل آلياته الا في الاجل المتوسط والبعيد بحُكم :
(1) طبيعتها التي تحتاج الى اصلاحات ادارية وتكنولوجية ومعلوماتية، و
(2) التجربة المشابهة التي مرت بها بعض دول اوروبا الشرقية والتي احتاجت الى ميزانيات ضخمة واستقرار سياسي واجتماعي وانخراط المؤسسة العامة والخاصّة فيها، حيث كان الاقتصاد الاوروبي افضل حال مما هو عليه اليوم (استقرار مالي ونقدي، نسبة بطالة مقبولة، نمو مستدام، اجور نسبيا مرتفعة).
ولكن الامر الذي يستدعي اهتماما اكثر هو ان بعض المكونات من مذكرة التفاهم وردت من ذي قبل وبقيت معلقةً منذ عام 1996، بداعي "التدرّج في مسار الاندماج الاقتصادي"! ثم بداعي التفاوض من عام 2011 الى هذا العام. حيث قضايا مهمة لم يحسم فيها الجانب التونسي الذي لم يكن يضمّ متخصصين في الاقتصاد الجهوي ولا في الجيوستراتيجيا. ومن اهم القطاعات التي لم يتم الحسم فيها من قبل "الخدمات"، و"صناعة الادوية"، وخاصة القطاع الزراعي بما في ذلك من الخدمات المتعلقة به، فضلا عن الانتقال الطاقي والرقمي.
واذكر انّ التفاوض كان حول نقطة منهجية وهي: هل نتفاوض على حزمة كاملة من القطاعات وننظر في كيفية وضعها في الواقع، ام نتخيّر قطاعات بعينها ثم يجري النقاش حولها؟
ومن الاسباب الاضافية التي اوقفت المسار هو ان الدولة التونسية طيلة العشر سنوات الماضية لم يكن لها مرجعًا عامًا خاصا بها ، مبنيا على استراتيجية تنمية شاملة حيث الاستراتيجية التجارية عنصر منها، فضلا عن تأثير مجموعات الضغط في بعض القطاعات التي تأبى المخاطرة ان تفقد بعض الافضليات او ان تخسر معركة المنافسة.
ومن جهة الاتحاد الاوروبي، وهو في موقع قوة اقتصادية ومالية نسبية، قد لا يكون هذا الاخير متحمسا للحوار في بعض الابعاد -التي قد لمْ تنل نصيبها من الاهتمام او حتى الذكر من الجهة التونسية- المتعلقة :
(1) بسياسة دعمه للزراعة الاوروبية، في حين انه مستعد لرؤية القطاع الزراعي التونسي محررا لديه،
(2) بقطاع الخدمات والتعليم، حيث انه يأبى ان يتحرر هذا القطاع بين الطرفيْن ، ويطالب الجانب التونسي بإلغاء التأشيرة او ان يصبح المتخرج من الجامعة التونسية او من اي مدرسة تكوين مهني الحق في العمل بفرنسا، وكذلك العدل المنفذ ومنظم الحفلات، والحلاّق والسبّاك وصاحب "شركة" نقل بضائع!
وعلى كل حال، لا نعلم ما اذا كان للجانب التونسي خلال العشرية الماضية وما بعدها تقديرٌ لأثار الاتفاقيات التجارية الشاملة من حيث استدامة النمو، وانتقال المعرفة والتكنولوجيا والقطاعات المستفيدة الاكثر والاقل، وكذلك من حيث سوق العمل ومتوسط الاجر…
ولكن كذلك من حيث التكلفة الاجتماعية المنتظرة في بداية التجربة وسُبل احتوائها (في ضوء تقريبا كل التجارب المماثلة في العالم والادبيات التطبيقية في هذا المجال)، وفي الاثناء، تدهورت المالية العامة خاصة خلال الست او السبع سنوات الاخيرة (انظر مختلف تقارير المعهد الاعلى للإحصاء) وتداعت المؤسسة التونسية بالهشاشة، وتضاعفت تدفقات الهجرة غير النظامية-في ظل ازمات في البلاد الاوربية تعمّقت بالكورونا والحرب في اوكرانيا …
لذلك لسائل ان يسأل ما اذا تم الحسم في هذه القضايا الشائكة، وعن وزن الهجرة غير النظامية فيها، في واقع كانت فيه العلاقات التونسية الاوروبية ليست في احسن حالاتها.