قد يوافقني جزء كبير من ابناء جيلي الذين شهدوا اهمّ روّاد السياسة والقادة في العالم بنهاية الثمانينات والتسعينات والسنوات الالفين وتابعوا أخبارهم تقريباً يومًا بيوم على القنوات الفرنسية والايطالية وكذلك التيليتاكست، وكانت محلّ نقاشات وحوارات مهمّة، تُحيل غالبًا الى قراءة كتب ومبادلتها وتمنح الفرصة للتعرّف على اصدقاء جدد تجمع بيننا اهتماماتنا بالشأن العام.
فكانت الحوارات التلفازية بين ميتران وشيراك، ثم التعايش الحكومي بين شيراك وجوسبان الاشتراكي -كم كانت دائرة ثقافته واسعةً ذلك الرجل- وكان قبل ذلك الانتقال الديموقراطي بالعديد من الدول بداية من البرتغال الى دول من امريكا اللاتينية ثمّ اوروبا الشرقية، ومناورات ريغن في حرب النجوم، وحرب المرأة الحديدية -تاتشر- على جزر المالوين بالارجنتين، و"ايران-ڤايت"،… وغيرها من الاحداث المتسارعة التي افرزت قياداتٍ وسياسيين الهموا الطبقات المثقفة والاكاديميين في العالم مثل هنتنغتون وفوكوياما وغيرهما.
وفي خضم كل هذا، تكوّنت فكرة حول الحدّ الادنى للملامح الرئيسية للمشتغلين في الحقل السياسي بقطع النظر عن مرجعياتهم يساريةً كانت، وسطية او يمينية.
واعتقد انّ هناك حدّا ادنى من اكتساب القدرات على استباق الاحداث وقراءتها قراءةً موضوعيةً وجب ان يتوفّر لدى السياسيين. فلم تتفاجأ الشعوب الاوروبية بالاستفتاء حول "انجاز منطقة اليورو-كعملة موحّدة"، ولم تتفاجأ المعارضة في امريكا بالتعديل الدستوري، ولم يهتمّ البرنامج السّاخر "القلابس" بفرونس-2 بالتنكيل بذوات السياسيين.
ولكن لمّا أقرأ تدوينةً او اسمع تصريحًا لسالم الابيض او محمد عبو أو المغزاوي أو عماد الحمّامي وغيرهم كثير، فانّي اظلمهم على "نواياهم الحسنة" -كي لا استعمل وصفًا آخر، وعلى انعدام الاستشراف لديهم وعلى عُقم تفكيرهم وعلى محدودية ادراكهم لديناميكية الواقع ومساراته المحتملة ولعدم تحمّلهم المسؤولية المجتمعية؛ الواقع الذي هم الذين رشّحوا انفسهم لتسييره واعتلاء منصّة الريادة فيه.