لمّا يستغرب بعضُ الاصدقاء المقرّبين لعدم اكتراث عمُوم الناس بمستقبلهم الجمعي -عدى ظواهر الاشياء- وانطواء كل واحد بمعزل عن الاخر على مصالحه الذاتية - بدون الانتباه الى ان تلك المصلحة الذاتية، التي هي في اغلب الاحيان ماديّة وملموسة، ليست مستدامة- فان الاستغراب يصبح غير مُبرر – على الأقل- في الحالات التالية،
- "العُنصر": (استعارة مجرّدة من الفرد الذي يختزل جملةً من الملامح):
لمّا ينشأ الفرد في محيط اجتماعي – خاصّة منذ تسعينات القرن الماضي- قائمةٌ مقاييسُ النّجاح فيه على "النتيجة"، بقطع النظر عن مواردها مهما كانت "غشّا"، او "فسادا"، او "استكانةً"، او "شرفا"، او "انتحالا"، او "تسويقا لصورة"، او "دعمًا مُسبقًا ضامنًا للنتيجة"، فانّ هذا المنحى يُصبح سبيلا مُثلى "للنجاح الاجتماعي" ويستوي مع الذين أحرزوا نفس النتائج بالعمل والمثابرة والصّدق، يكون فيها تحقيقُ المصلحة الذاتية في أعلى سُلّم الاهداف الفردية حتى وان كانت على حساب الاخرين وعلى حساب المصلحة الجمعية (مثلا بتطويع قواعد اللّعبة لفائدته)، وخاصّةً على حساب الاخلاق الكونية.
ولا يكون الاستغراب هنا مسألةً مهمّةً لأنّ فاقد الكفاءة والجدارة والذي "نجح" في أعين الناس، ليس له حولٌ ولا قوة لاستدامة "نجاحه" الا بالسطو على عمل الاخرين وبالاستثمار المستمرّ في الهامشيات التي باتت تؤتي أُكلها في هذا الزمن الرديء.
فإذا كانت الدّروس الخصوصية -مثلا- عند المدرّس الذي يُقيّم الامتحان تضمن عددا مرتفعا بعلم الولي الذي يدفع الأتعاب وهو في ذات الوقت يؤسّس لثقافة "اقتصار المسافات" و"الرشوة المُقنّعة" المُحقّقة للأهداف الشخصية لدى ابنه، فذلك ينسحب كذلك على -مثلا- التسجيل بالدكتوراه (ولا أعمّم) باستهداف إشراف استاذ يكون عادةً في لجنة الانتداب، والذي عمل من جهته على أن يكون في لجنة الانتداب (ولا أعمّم حتى لا أُفهم خطأً، اذْ في الجامعة طلبة مميزون وأساتذة نزهاء).
وينسحب ذلك بارتهان الشخصية والعبودية للمدير في الشركة او في الادارة الذي سيوقّع في شهادة الترسيم، وعمُوما بخفض الجناح لصاحب النفوذ الذي بات "محدّدا للمستقبل" عوضا عن العمل والمثابرة والاستحقاق. وإذا كان الامر كذلك، فلا تسأل هذا "العنصر" عن القضايا الجمعية ومآل البلاد لأنها في اسفل سلّم اهتماماته، فضلا عن موقفه ممّا يقع بالبلاد.. فمحرّك نشاطة قد تمحور حول "البحث عن واسطة" و"التساؤل عن أقرب وأسهل طريق" للوصول الى المأرب، وهي ثقافةٌ قد تتعمّ- ما لا أرجوه طبعا.
- "الثقافة"، وهي "القِيَم +السّلوك":
السّلوك الانتهازي يصبح نمطيّا اذا تمّ مأْسستُه في المجتمع، اي انتشاره كمصدر للإلهام في تقييم الاحداث وفي حركة الفرد في المجتمع. ولا يمكن له ان يكون كذلك الاّ عندما تستقيل المؤسّسات الاجتماعية عن دورها، كاستقالة الأسرة، والمدرسة، والجمعيات المدنية، والادارة، والمتجر، وغيرها. فاذا غشّ طالبٌ في الامتحان ولم يتمّ التبرؤ منه من زملائه فقد دعموه وساهموا في مأْسسَة الغش كقيمة اجتماعية، وإذا غشّ تاجرٌ في سلعته وظلّ الناس يشترون منه البضاعة ولم يُشهّروا به فقد دعموه وساهموا في مأْسسَة الغش كقيمة اجتماعية، وإذا غشّ حزبٌ واعاد الناس انتخابه فقد دعموه، وإذا تحدّث جاهلٌ في موضوع ليس في اختصاصه وواصل الناس يتناقلون اراءه ويثمّنونها، فقد دعموه. وإذا سكت الناس عن الظلم بأنواعه، فقد مهّدوا الطريق لمأسّسته كقيمة اجتماعية، وإذا تمّ دعم الجهل والمناورات الاعلامية والمسلسلات السطحية والبرامج الفجّة وصناعة النجوم المُعتّمة، فاعلم انّ الاهتمام بالقضايا المشتركة يصبح بعيدا سنوات ضوئية، فضلا عن الخوض فيها ميدانيا.
وقد يتساءل القارئُ عمّا يجري في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والقائمة على تنظير مُبكّر منذ القرن الثامن عشر "للفردانية" و"أنانية الفرد" في المجتمع (أُسس نظرية الرفاه مع جيريمي بنثام، ثمّ آدم سميث وغيرهما). أقول انّ :
(1) هؤلاء نظّروا كذلك لوعي الفرد بواقعه وكانت لهم تصوّرات للجمع بين مصالح الافراد المنعزلين ومصالح المجموعة، وقد أدرك "سميث" وغيره من وجهاء الرأي أهمّية "المؤسّسة" في ذلك وكذلك "العقلانية"، فضلا عن
(2) المعطى الاجتماعي والثقافي المُختلف بين بلادنا وبلادهم والذي اهتمّ فيه العلماء المتأخرون مثل هربرت سيمون ودانيال كانيمان و فيرنون سميث وريتشارد ثالر وأغلبيتهم حائز على جائزة نوبل.
فلا نحن دعمنا المؤسّسة جماعيا ولا نحن امطنا اللثام عن الانتهازية والفردانية اليتيمة، ولا نحن اعتمدنا العقلانية في رؤيانا لواقعنا ومآله. فانتظارنا لانتهاء المآلات لا يفضي الاّ لقبول الواقع الذي لسنا طرفا فيه ما دُمنا ناقلين للأخبار ومنخرطين في مسارات لا نستبق أخطارها.