تخضع السياسات الاقتصادية والبرامج التنموية والاصلاحات باختلاف أنواعها الى مناهج علمية، إلاّ انّ مجال الاقتصاد، كسائر مجالات العلوم الاجتماعية ليس له مُختبرات مثل علم الفيزياء أو البيولوجيا عمومًا.
ذلك أننا لا نستطيع أن نجعل من بلدٍ ما مُختبرا للتجارب الاقتصادية بما يتضمّنه -ذلك البلد- من مؤسّسات وتجمّعات سكّانية وثقافة محلّية وعاهات هيكلية وخُصوصيات اقتصادية وأحلام أجيال ومجابهة تحديات داخلية وخارجية ومخاطر قد تكون تداعياتُها وخيمة وتكلفتُها غير رجعية.
ولذلك وجب أولا الابتعادُ عن كل التجارب الفاشلة، وثانيا اختيار ضمن التجارب الناجحة تلك التي يمكن اعتمادُها، مع المشورة والعقلانية وخاصّة التفكير العميق بهدوء لا بالتشنّج ولا بالحماس الفياض ولا بقصص كليلة ودمنة.
ففي التاريخ لم ينجح رائد حرب ولا قيادي سياسي مهما كانت طبيعة حكمه والتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي نشأ فيها، بدون أن يكون مُحاطا بمجموعات ضغط أو بمكوّنات المجتمع. فلم يستطع الفراعنة بناء الأهرام الاّ بعبيد "مغتربين"، اي فاقدي شيئ من ذواتهم لفائدة إيمانهم الثابت بربُوبية فرعون، ولم يكن ممكنا للأسياد في أروبا القرون الوسطى من الاستفادة من الاقنان بدون رضاء هؤلاء ومباركة الكنيسة التي لم يكن لها أن تُعبّد الطرقات وتحتكر التعليم ومدارس الهندسة العليا وأن تموّل الحروب الصليبية بدون عقد اجتماعي محلّى، ولم يكن العرب المسلمون القادمون من الشرق أن يصلوا الى الاندلس بدون دخول سكان شمال افريقيا الى الاسلام واهدائهم طارق بن زياد البربري.
ولم يكن هتلر ليتوسّع بالحكم بدون انخراط أجهزة الدولة والشعب الالماني وجزء كبير من العلماء في النازية، ولم يسقط الاتحاد السوفياتي (كما تلاشت الخلافة العثمانية) الاّ لهشاشة نظامه الداخلي وفقدانه مشروعا مجتمعيًا يصدّره للعالم ويحتضنه... ولم يدُم النظام الليبرالي -على هيناته ونقائصه- الاّ بقدرته على امتصاص الصدمات التي يتلقاها، ولكن كذلك لاكتسابه لمشروع مجتمعي -على نقائصه- فيه قيم يمكن ان تحتضنها المجتمعات…
وباختزال شديد، لا يمكن انقاذ الاقتصاد والمجتمع من المخاطر في الوقت الحالي يدون مؤسسات مستقلّة وشفافة يرتضيها الناس، ينخرطون فيها ويدافعون عنها ويطوّرونها، وإلاّ فإنّهم سيصبحون عناصر تجارب مختبرية عالية المخاطر، وعلى الارجح مُكلفة وفاشلة.