عند قراءة جداول المحاسبة العامة لخزينة الدولة ونجد في "يوم معين" ان هناك عجزا "محاسبيا" بين المداخيل الجارية والمصاريف الجارية، فذلك لا يحتمل تحليلا اكثر مما يستحقه، خاصة عندما يقيّد البعضُ انفسهم بدفع أجور الموظفين بالقطاع الحكومي:
(1) مصاريف الدولة الجارية ليست الاجور فقط، اذ ْان هناك الدعم بمختلف اصنافه ومصاريف اخرى…
(2) مداخيل الدولة ليست من الضريبة على الدخل فقط، فهناك كذلك العوائد على الاصول العامة وهناك التسبقات، وغيرها التي يمكن الاّ تكون أُرصدتْ في ذلك اليوم، وهناك ايضا الموارد الضريبية غير المباشرة التي تمثل حواليْ ثُلُثي الموارد الجبائية، …
(3) وفي كل الحالات، هناك رصدٌ لما يسمى "النفقات الطارئة" في ميزانية السنة المالية…
ولمعرفة ما اذا كان العجز مسترسلا الى غاية نهاية الشهر فان ذلك يستوجب على المُحلل الاقتصادي ان يكون مُطّلعا شديد الاطلاع على المداخيل والمصاريف المبرمجة ليس فقط من يوم قراءته للجداول الجارية الى نهاية الشهر، بل الى نهاية السنة المالية وان يعرف كيف مدراء المالية سيكيفون ويعدلون وتيرة المصاريف مع وتيرة المداخيل. وهذا، مع شديد الاحترام للمتحدثين في هذه القضية، ليس متاحا لعموم الناس.
صحيح، ان ادارة المالية العامة كانت ضعيفة خلال الحكومات المتأخرة، وان اشكالية استدامة العجز المعقدة نوعا ما على المستوى الفني لمْ تُدر بما تستحقه من ارادة واهتمام وحيطة وفصل بين الدورات الاقتصادية والدورات السياسية، ولكن اذا حمّلنا اسباب العجز الحالي اعباء احداث طال بها الزمن الى سنوات عدّة، كضعف انتاج الفسفاط والتوظيف في القطاع الحكومي وغيرهما التي تتطلب نوعا آخر من السياسات، فهذا غير مألوف في التحاليل الاقتصادية الكلية القائمة في غالب الاحيان على المدى القصير (بدون اغفال الاسباب الهيكلية المتعلقة بالأجلين المتوسط والطويل) فضلا عن انه وجب نوع آخر من التحاليل الفنية المرتبطة أساسا بالدورات الاقتصادية الحقيقية (RBC) حيث يصبح التمييز بين الظرفي والهيكلي ممكنا. والاّ فان مقولة نظرية الكل الذي يخضع للكل تصبح مستعملةً في اي حديث انطباعي لم ينلْ من النظر ولا التطبيق.
اعتقد انه لَمِنَ التسرع ان نحكم على عدم قدرة الحكومة على اسداء الاجور انطلاقا من قراءة محاسبية للجداول الجارية في نقطة معينة من الزمن بدون التعرض على الاقل الى الابعاد الاخرى أعلاه، مع ان كل السيناريوهات ممكنة في هذا الظرف غير المسبوق لهشاشة المالية العامة.