يبدو انّ الفساد السياسي والاداري و"التحفيز المالي غير المُستحق" للذين عملوا ويعملون جاهدين على تحيـيد القوى الفكرية وتسطيح الوعي العام بواقع ومستقبل البلاد ليس أمرًا مُعَمّمًا، لأنّ ذلك يتطلّب أموالا طائلة بأرقام فلكية، بحيث تتضاءل مردوديتها اذا اعتبرنا فترة عشر سنوات كاملة والعدد المتزايد من "رُسُل الكوارث" و"منتحلي الصفة المتعددة (صُحفي استقصائي، خبير، كرونيكور، اعلامي، عرّاف، مُناضل، ناشط حقوقي، ناشط سياسي، ...)، بل أعتقد انّ هناك بيئةً اجتماعيةً مهيأة لذلك، زُرعت فيها قِــيمٌ متدنيّة وبُثّ فيها عَدمُ اليقين بالمستقبل وانخفاض منسوب الثقة بالغير وبالذات، وانقلب فيها سُلّم القيم رأسًا على عقب مثل "قيمة الرّبح السّهل" و"الركوب على الحدث" و"التطاول على القامات الوطنية التاريخية"، وتجاهل المواهب الخلاّقة مع تهميشها، والصدّ حيال صُعود الزّعامات المحلّية والاجتماعية كسائر المجتمعات المُستقرة.
واعتقد انّ ذلك دام منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي حيث حُسم الصّراعُ في أواسط التسعينات لفائدة العُنصر المُهيمن حاليا -كما يبدو-. فليس أدلّ على ذلك من تدني مُخرجات التعليم على مرأى من القائمين عليه في مستوياته الثلاثة، ومن الانحدار الاخلاقي في الفضاء العام أمام أعوان الأمن العام، ومن تعايش احياء ومدن عديدة مع الفضلات (حاشاكم) وتلوّث المحيط أمام المسؤولين على الشؤون البلدية، ومن تطبيعٍ مع العُنف السّمعي والبصري في العديد من وسائل الإعلام، ومن بثّ لثقافة الخيبة ومن ترسيخ لروح الاحباط والنكبة، ومن تصريحات قوامُها التناقض بين كلّ جُملتيْن، ومن تشفٍّ في مصائب الغير واستهداف ذواتهم الشخصية، ومن انسياق "بافلوفي" وراء الاشاعات الرخيصة ومن غش في الامتحانات وفي المناظرات، ومن ارتفاع في منسوب الطلاق ومن قضايا اجرامية خلاّقة…
وفي ذات الواقع، يكون من الطبيعي جدا ان يتحوّل لَعْمَارِي وفَرْحاتْ الى مُــؤرّخيْن وقائليْن -بدون تحفظ- انّ طارق بن زياد كان شخصية صُنعت من خيال وانه أكمل حياته تائهًا في شوارع بغداد، وانّ ذلك ناتج عن المُغالطات في مناهج التعليم والحالُ انهما يعلمان أنّ هناك مئات من المتابعين وأنّ البلد فيه كلية الآداب التي تعجّ بالمؤرّخــين.
ومن ناحية أخرى لم نسمع يومًا مؤرّخًا فرنسيا يصخّم خيبة نابوليون في مصر ولا مؤرّخا امريكيا يتوسّع في هزيمة بلاده في الفيتنام. وكذلك عادي جدا ان يتحوّل خْلِيفة وذلك الصبي الى مُنظّريْن ومحلّليْن للشأن السياسي والاقتصادي، وهما يعلمان جيّدًا انهما ليسا مؤهّليْن للحديث في تلك المواضيع- وغيرهما كثير-
ولو فرضنا ان الشعب التونسي اجتمع يومًا في مكان واحد وقام بتقييمٍ العشرية الماضية - بِرِهاناتها وتحدياتها وتعثراتها وصراعاتها وأبعادها الإقليمية ومجموعات ضغطها الباحثة عن الريع وبعدم انخراط جلّ التونسيين في المسار الانتقالي وبالجرعة العالية من الأيديولوجيا التي تحكّمت في الوجدان وأوصدت العقول- وفق مناهج موضوعية وعلمية (وهي متوفرة في المكتبات وفي النت) وانتهى الى خلاصة انها كانت سوداء وأنّ تعثر البغال والحمير في أرجاء البلاد من أسبابها، فانه سيكون الشعب الأغبى في العالم - وهذا لا يستقيم طبعا- الذي أعاد انتخاب نفس الرؤساء ونفس البرلمانات ونفس المسؤولين القائمين على شانه بحاضره ومُستقبله، وأنّه كان في مقام السائح في بلده أو غائبا عن البلاد ينتظر اللحظة التاريخية التي ينهار فيها حتى يتفاجأ بأنّها كانت سوداء !