يتساءل البعضُ عن "ازدواجية الخطاب" لدى المنظمات العالمية سواء كانت مالية أو حقوقية أو عسكرية. اذْ تراها تدافع في الخطاب الرسمي عن محاربة الفقر في العالم ومساعدة الدول المتخلّفة، وعن حقوق الانسان وارادة تحقيق المصير للشعوب واغاثة المنكوبة منها، وفرض القوانين واللوائح الدّولية... وغيرها من المبادئ الإنسانية ذات الاجماع المُطلق. ولكن في الواقع لا تبدو كذلك. فتراها تطرح مثلا "الحوار" بين المُحتل وصاحب الأرض، وبين المُغتصِب والمُغتَصَب، وبين الشّرعي والمنقلب…
ويعتبرُ البعضُ أنّ ذلك ناتج عن البَوْن المفروض بين المبادئ الإنسانية الكونيّة من ناحية وموازين القوى والمصالح على أرض الواقع من ناحية أخرى. وهذا يبدو في ظاهره "مُعقلنًا" لإدارة الخلافات والحروب، ودرءً لتراكم الخسائر والضحايا والتكاليف.
ولكن إذا دقّقنا في الامر نجد أنّ هذه المنظمات الدولية تُمثّلها دولٌ ذات المصالح المُختلفة والمشتركة (أمن غذائي، تكنولوجيا، طاقة، أمن عسكري،). فتُعدّل مواقفها وفق تطوّر موازين القوى وتُعيد النظر في تحالفاتها من خلال هذه المنظمات، وتكوّن مجموعات ضغط نشطة للغاية، ولكن بعيدة عن أضواء الاعلام الى أن تتطوّر هذه المجموعات وتتحوّل أدوارُها حتى ولو حادت عن المواثيق الدولية المعلومة. فيعجز المواطنُ المُجرّد على متابعتها وعلى فهم بعض مظاهرها لعدم اكتسابه للمعلومة في حينها كما يعجز في صدّها عندما يجد نفسه أمام الامر المقضي، خاصّة وأنّه يستثمر وقته في معيشته اليومية وتحدّياتها من شغل واهتمام بحياته الخاصّة. وما ان فهم الاحداث الماضية الاّ وتجاوزته....
ومن ناحية آخرى، تجنّبًا لتكلفة الحصول على الاخبار والمعلومات الصحيحة، يلتجئُ الفرد الي استقاء معلوماته من الفيسبوك ومن "المتحدّثين في الفضاء العام" بدون أن يتثبّت من صدقهم ومستواهم، عبر وسائل اعلام هي نفسها تقتاتُ من ظاهر الاخبار العالمية لأنها لا تُنتجها. فيظلّ يسبُّ اردوغان أو ماكرون أو بوتن، وقطر "الاخوانية" أو بعض دول الخليج عندما يجد الوقت لذلك مساءً بعد عناءِ يوم كامل من العمل والاهتمام بشؤونه العائلية أو دراسته الى أن يقرأ في الاخبار تحالفات وشراكات بين من ظنّ فيما قبل أنهم أعداء (تركيا، الامارات، قطر، أمريكا، باكستان، روسيا، إيران، مصر، الصين، فرنسا، سوريا، الكيان، لبنان، الجزائر، المغرب، ...).كما يتفاجأ بانّ دول أوروبا الشمالية لم تكن أطرافًا محايدةً في تشكيل موازين القوي العالمية الحاليّة، كما يصطدم بانّ فرنسا ليست ذلك البلد المحوري الاوحد في رسم مستقبل البلاد وحاضرها، كما يتفاجأ بانّ المستثمرين الروس قد سحبوا رؤوس اموالهم من اوكرانيا عام 2020 حسب تقرير الامم المتحدة للاستثمار (2022)...، ويحاول ان يفهم ماذا يجري الان في ايران من احداث هزّت النخبة الحاكمة فلا يجد اجابةً الاّ باعتبار نفسه ان الاحداث قد تجاوزته وان ما يقع هناك ليس الاّ مُخرجات عمل مسبق لم يتم الاعلان عنه بالطبع.
والطّريف في ذلك، أنّ أغلب الشعوب العربية قادرة على أن تتكيّف (مع) وتُوائم مواقف حُكّامها ولو بتأخّر -لا محالة- وذلك لِمَا تُصاحبُ هذه الاستراتيجيات المصلحية أعلاه من تعبئة اتّصالية لا تتحقّق جدواها حيال الشعوب الواعية بواقها والمنخرطة في شأنها العام.
وعلاوة على مناهج التعليم والاكلة الثقافية اليومية، تتمحور هذه التعبئة الاتّصالية أساسًا حول،
(1) الاختيار الدقيق للمصطلحات في الخطاب وفق الرسالة المُستهدفة. فيُقال مثلا "حرب روسيا على أوكرانيا" إذا كان الهدف هو وضع هذه الأخيرة في موقع الضحيّة، ويُقال "الحرب بين روسيا وأوكرانيا" إذا كان الهدف هو تبرئة روسيا التي تحارب دول الغرب عبر أوكرانيا.
ويُقال "رئيس الدولة المؤقّت" عندما يُراد تمرير الرسالة بانّ "هذا الوضع ليس دائما" وأنّ "ساعة الخلاص من هذه النخبة السياسية الجديدة التي تريد الديموقراطية التي لا تصلح للشعوب المتخلّفة، وتريد إزاحة المُستفيدين من الرّيع" لن تتأخّر". ويُقال "العشرية السوداء" بدون تقييم علمي وموضوعي، للتأكيد على أنّ "العشرية القادمة ستكون بيضاء بالسلم الاجتماعية والرّقي الاجتماعي والانتصار بكأس العالم والحصول على جوائز نوبل. ويُقال لاحد المتحدّثين النكرة "خبير" حتى يكون كلامُه نافذا لدى العامّة حتى ولو كان يخدم اجندة معيّنة تقطع الطريق أمام الخبراء والمتخصصين الحقيقيّين، …
(2) التكرار بدون كلل ولا ملل لنفس الأفكار ونفس المُصطلحات ونفس المواقف بنفس الاشخاص، الي أن ترسخ في اللاّوعي الجمعي ويمكن عندها توجيه الرأي العام لأهداف الاستراتيجيات أعلاه.
(3) عدم الاكتراث بالأصوات المختلفة وهو نوع من أنواع "التوحّد" في التعاطي الإعلامي مع الشأن العام الى أن تحلَّ الافتراضاتُ محلّ الواقع. ومن ثمّة تُصبحُ "شبهةُ الفساد" فسادًا لا نقاش فيه، و"إمكانية العمالة للخارج" عمالةً مؤكّدة للخارج، والاشاعاتُ حقيقةً يقينيّةً، سواءً في القضايا المحلّية أو الدوليّة.
ولا تتدخّل السلطات أو القوى ذات الوزن في تغيير الواقع الاّ إذا ارتبط ذلك بمصلحتها. فلن يكون صادما لو يتمّ اقتراح الدولتيْن في ليبيا بعد اتّهام حفتر بجرائم حرب، ولن يكون غريبا لو دعمت قوى دولية تونس ماليّا ولوجستيّا؛ قوى الي حدّ الان ملتزمة الصمت أو متحفّظة، لو توصّل الحاكم الحالي والفعلي الى تسويق "نتائج استفتاء" تقضي بإرساء دستور جديد، يحمي روّاده وخاصّة يقطع مع العشرية "السّوداء".