بات واضحا أنّ جزءً من الأجيال الشابة (ولا أُعمّم) لا تكترثُ بالأجيال السّابقة التي "تُوضعُ في نفس الســلّة" وحسب نفس المسافات مهما كانت العلاقة التي تجمعها (المعلّم، الأستاذ، الولي، الأخ، الجار، العالم، الجاهل، المُسنّ، ...). وهذه حقيقةٌ نجد ملامحَها في الخطاب المُقتضب وأحيانا العنيف لدى بعض الشباب، في إدراك الواقع بطرقة جُــزئيّة ومتمحورة أكثرَ حول الذات، في انتفاء الاستيتيقا فيما سُمّي فنّا من دراما وكوميديا وغناء (ولا أعمم بالطبع)، في المصطلحات المُــستخدمة (مع رأس مال لغوي منخفض جدّا)، في الأفعال وردود الافعال المتوترة ذات التبعات السلبية (أتعاب للأولياء، أضرار في المال أو مضيعة الوقت...)، وهي تخدم في آخر المطاف مفتاح توزيع الريع المُثبت منذ عقود، كما يدلّ هذا على شرخ في النسيج الاجتماعي…
ويَــعتبرُ البعضُ ذلك أمرًا «طبيعياً» و "وظرفيا" في ظل «التطور الطبيعي للمجتمعات»، ولكني أعتبرهُ قُصرَ نظر وذريعةً لعدم الانخراط في الشأن الاجتماعي وتجنب مواجهة ما يُهدّد "البناء الاجتماعي والمُــشترَك".
أقتــصر فيما يلي على بعض الأسباب المُحــتملة لهذه الظواهر الاجتماعية.
أولا : التعليم و الأسرة،
وهما أمران لا ينبغي التغافل عنهما. فقد دأب النظام السّابق منذ بداية التسعينات (على الأقل) على وضع "إصلاحات" في مجال التعليم تجمع بينها قواسم مُشتركة لعلّ أهمّها:
(1) احتواء المنظومة التعليمية سياسيا بدعم أجهزة الرقابة الإدارية وارهاق المدرّس بمهام إجرائية وبيروقراطية لا فائدة علمية منها،
(2) تطويع المنظومة لمُــقتضيات النظام الاقتصادي المحليّ القائــم على الرّيْع (منذ الاستقلال) والذي لم يشهد هو الآخر تطويرًا ولا تحفيزًا جديًّا للاستثمار في رأس المال البشري ولا للابتكار ولا للمُــخاطرة التكنولوجية، حيث اننا لم نشهد أيّ فكرة اقتصادية خــلاًقة منذ التسعينات ولا إصلاحا هيكليا عميقا في القطاعات ولا في الجهات ولا في السياسات الصّناعية والتجارية... كما يشهد التاريخُ أنّ القائمين على الشأن الاقتصادي آنذاك غابت عنهم الرُّؤى الاستراتيجية (بالرّغم من استقرارهم في الحكم وتوافر التجارب العالمية الناجحة والفاشلة، والادبيات التطبيقية التي فاضت بها المكتبات والدوريات العلمية من كل المشارب الفكرية)، فيما اقتصرت التحولات في انشاء "مؤسسات جامعية تعليمية مهنية" في جلّ الولايات (Les ISETs) واحداث العدد الهائل من برامج الماجستير المهنية التي أجّلَت فقط توقيت الوفود الى سوق العمل (يحتاج الى تفصيل) مما القى بضلاله على مفهوم الجامعة وادوارها الحضارية واطارها الذي من المفروض أن يكون مجالا للأبداع الفكري والانتاج العلمي، وليس مرفقا لتخريج تقنيين أو حتى ناقلين لما جاء في الادبيات…
(3) استنقاص أو افراغ المحتوى التعليمي من أبعاده الثقافية الوطنية التي بدت ثانويةً في الاجندات الرسمية. كما تمّ الغاء العديد من المواد التعليمية الدسمة (في علوم المناهج، الرياضيات،..) التي لو تخطاها المتعلِّمُون لأصبحت لديهم فرصٌ أكثر للتحوّل الى أصحاب فكر علمي أسلم ومسؤولية مُجتمعية،
(4) التخفيف من شروط النجاح الدّراسي وتهميش معايير سُلّم قيم النجاح الاجتماعي، ممّا سرّع في تحويل "المدرسة" من مَعينٍ للقيم الكونية والانضباط الذي هو شرط أساسي للنجاح في كل الميادين، الى محطّةٍ مُهمّشة قابلة للتخلي عنها في كل وقت لفائدة الشغل أو السفر او التسرّب الدراسي، مع مُخرجات بمنسوب تشغيلية ضعيف ورصيد معرفي محدود جدا وشخصيات علمية هشة لا ترتقي الى لعب دور ريادي في المسائل الاجتماعية !
ولإنْ دفع فشل المدرسة العمومية بالأُسَرِ الى اكراه تحمّل أعباء التعليم الخاص الذي سحب البساط من التعليم العام كناقلة أساسية للتكافؤ الاجتماعي وتعزيز قيم المواطنة والأُسرة، فانّه أخفى في نفس الوقت التصدّع الذي يشهده النسيج الاجتماعي والثقافي بارتفاع التفاوتات الجهوية ومنسوب الطلاق ضمن الشباب وتقليص معدّل مدّة الزواج قبل أوّل طلاق، وارتفاع منسوب العنف الاسري وقضايا العقوق ومختلف أشكال التجاوزات الأخرى ذات القيد الأخلاقي كآخر حصن للترابط وبالتالي للتكافل الاجتماعييْن ...
وكأنّ الأُسرة والمدرسة باتتا نواتيْ عُــبور تستوي في ضوْئهما التنوعات الاجتماعية وتنتفي السلطة الأدبية للولي وتنطفئُ فيهما قداسةُ المؤسسة العائلية التي تُجمّع وتضمن التواصل بين الأجيال حسب وجهة نظر فكرية معينة، وتضمن الوعيَ بالانتماء الطبقي من وجهة نظر فكرية أُخرى (يحتاج الى تفصيل)! فعندما تستوي المسافات يُصبح الابُ والابنُ والمعلّم والمتعلّم في نفس المقام حين يتعلّق الامرُ بالتقييم أو المحاسبة، بالتكريم أو بالتنديد، بالتدخل أو المطالبة، وكأنهما رقمان في مجموعة متجانسة تسودها نفس القواعد. قواعد قائمة على "الحقّ" و"الواجب" من الطرفيْن ينقصها "مكتبُ ضبط" و"عدل اشهاد دائم" يوثق كل العلاقات. قواعد رُسمت منذ عقود وتدبّر فيها صاحبُ المبادرة في تسعينات القرن الماضي، وعجز من خلالها على الحفاض على "المُقدّس" وعلى "الاخلاق" وأفرغ العلاقةَ بين المدرّس والمتعلّم والولي والابن من كُنهها، كما سهل من خلالها تفكيك الروابط الاسرية المقدّسة مثل قانون "الفصل في الملكية" الذي لم يكن مطلبا شعبيا بل نقطة انطلاق بالرجل الخطأ في البناء الاسري، و"قانون السياقة عند بلوغ 18 عاما" الذي لم يكن مطلبا شعبيا اذ لم يكن غالب الشباب أصحاب سيارات وينتظرون بلوغ هذه السن، و"قانون العنف ضد القاصر" الذي أُخِذَ ذريعةً لتمرّد القاصر على الكهل ...
ودليلُ فشل هذه القوانين هو أنّ العنف – الذي هو اقتصارٌ للمسافات الاجتماعية- المادي واللفظي والنفسي قد تكاثر بشكل فاضح في الفضاءات العامة سواءً كانت ملموسةً أو افتراضيةً. وكانّ المجتمع قد طبّع مع نظام لُغوي بائس (كلمات وسلوكًا) لا تبدو المدرسة ولا الاسرة لهما دخل في ذلك، بل كانا مُستهدفيْن لتعطيل أدوارهما في انتاج المواطنة ... وتلك هي تداعيات تفكيك الاسرة وافشال النظام التعليمي.
كنا بصدد التعرض إلى العوامل الممكنة التي ساهمت في تدني الاخلاق.
ثانيا: تدهور الاوضاع الاقتصادية.
أثبت التاريخ ان العديد من الأزمات التي هددت الاستقرار الاجتماعي والامن بمختلف ابعاده كانت في سياق ازمات اقتصادية ذات الاسباب المتعددة. ويمكن التمييز بين :
(1) "الأزمات المفتوحة"، اي تلك المُحدَّدة بعدم قدرة النظام الاقتصادي على التوالد فتتعطل آلة الانتاج وترتفع البطالة ويتصاعد السلوك الاستباقي والاحتكاري وتتقلب الاسعار وتتضاءل نجاعة السياسات الاقتصادية وتنخرم الموازنات المالية العامة وتتصدع المؤسسات وتضعف. و
(2) "الازمات الكامنة" (Crise Latente)، وهي التي لمْ تطفُ على السطح كلُّ ملامحها ولكن ديناميكيتها تُنبئ باحتداد التناقضات الداخلية و/او هشاشة الاقتصاد وعدم قدرته على ترويض الصدمات العشوائية، داخليةً كانتْ او خارجية. وعلى كل حال، تتراجع المرجعيّات الاخلاقية والقيود الإنسانية في الأزمات الاقتصادية أمام تصاعد أشكال "الصراعات" من "اجل البقاء" فتكثر جرائم السرقة والسطو على ممتلكات الغير وقد تصعد موجات من الجرائم المنظمة (العصابات في شيكاغو ابان ازمة 1929، والمافيا بإيطاليا اثر الأزمة الاقتصادية والحروب في الربع الاخير من القرن 19، وكذلك في بعض الدول مثل العراق وسوريا اثر حرب الخليج)…
ولكن ما هو ثابت هو ان تدهور الوضع الاقتصادي وتوسّع التفاوتات الاجتماعية اللذيْن بدآ يتفاقمان منذ بداية 2000 في تونس (يحتاج إلى تفصيل) قد أفضيا إلى تسارع صعود مظاهر العنف والتوتر السلوكي. فانتشر الفساد المالي والمؤسسي (تقرير البنك الدولي،2014) والأخلاقي، الخفي منه والمُعلن. وقد احتدّت البطالة الهيكلية خلال العشريّتيْن الاخيرتيْن وتدنى متوسط نسبة النمو إلى اضعف مستوياته التاريخية وتراجعت مؤشرات الترقيم السيادي وتضاءلت مؤشرات التصنيع وتوسع نطاقُ الأنشطة الموازية ممّا دلّ على بوادر "حركة الانفصال عن الدولة" حيث اهترأت الخدمات العامة وتراكم حجم الادارة وتقلّص أداؤها وباتت عبئا بيروقراطيا يُنظر اليها كاداة تعطيل المصالح ولكن يسهل احتواؤها من الباحثين عن الريع، لا كاطار يُسهّل الحياة للمواطن ويضفي شرعية وظيفية للدولة…
وقد يفسِّر ذلك -ولو جزئيا- استرسال العلاقة المتوترة بين المواطن والدولة حيث تمّ احتساب متوسط "حدث واسع النطاق" يهدد السلم الاجتماعية في كل خمس سنوات في الفترة ما بين 1956 و2010 (فترة دراسة لم تُنشر بعد)، بما تداعى ذلك سلبا على نظرة الفرد للمستقبل حيث يجد نفسه بين مطرقة التشبث بالمبادئ الإنسانية من جهة وسندان التطبيع مع القواعد غير الاخلاقية من جهة اخرى، خاصة حيال استقالة النخب المثقفة العاجزة على التنظم، فضلا على ريادة المرحلة وعلى إرساء بدائل قابلة للحياة..
ثالثاً: انتشار خطاب الكراهية.
ومن الاسباب المحتملة لأسبقية المُعطى الاقتصادي (العقلانية الكمية: يحتاج إلى تفصيل) على المرجعيات الاخلاقية التي من المفروض ان ترتقي بالذوق العام وتحمي المواطن من كآبة المناظر والتعبيرات الاجتماعية المُحزنة وغير الجمالية التي تقيّد "المواطن" في مربّع ضيق الافق وتكبل ارادته للسمو بإنسانيّته، هو الأكلة الثقافية التي يتناولها يوميا من مادة إعلامية وثقافية سطحية، تُخاطب ما علق له في وعيه من صبيانية ولامسؤولية، وتنمي فيه الفردانية وتحدّ من وعيه بواقعه وتجمّد حركته لتغيير واقعه.
ولمّا كانت المدرسة والمنظومة التعليمية تُنتج اكثر النقلَ على حساب العقل، تسقط الضحية في شباك اجندة راس المال التي تجعل منه مستهلكا غبيا يضخّم ميوله لمظهره (le paraître) على حساب وجوده (l’être)، خاصة في واقع ازمة "قيادة اجتماعية" حيث يصبح الكرونيكير ذو المستوى العلمي الضحل وصاحب الأجندة المجهولة مصدرا للمعرفة، والمسلسلُ الرمضاني ذو المحتوى الرديء مرجعا للقدوة….
وقد تعمل بعضُ مجموعات الضغط على انتاج التبلد الذهني والدفع نحو الاستقطاب الثنائي (الموروث منذ بداية القرن الماضي: يحتاج إلى تفصيل) من خلال صناعة الرأي والسطو على وعي الشباب بإقحامهم في صراعات ليسوا معنيين بها ولا لهم فيها أسلحة فكرية مناسبة، مثلما شهدناه في العشرية السابقة. فتنتشر ألفاظ الكراهية والعنف الرامية إلى نفي الاخر. وكان ذلك بشتى الوسائل بما في ذلك التشكيك في الثوابت القيمية وفي الهوية وفي التاريخ الوطني. وهذا لا يمكِّنُ بالطبع من الاهتمام بمفتاح توزيع الريع الاجتماعي إلا إذا تفاقمت الأوضاع الاجتماعية وتضاءلت الشروط المادية الدنيا لإعادة التوالد الإجتماعي إلى حدّ لا يُطاق. عندها يعي المواطن بواقعه…