لست متخصصا في "اليقظة الاستراتيجية" ولا في "بناء الرؤى المستقبلية" (Prospectives) الذي هو مجال متعدد الاختصاصات من رياضيات في بعضٍ من مجالاتها، وعلم الاجتماع بمجاليه العام والسياسي، وعلم الاقتصاد ببعض فروعه، وعلم الاحصاء والتنبؤات، وعلم السياسة، وعلوم المناهج.
وفي الواقع، هذا الميدان ابتدعه الفرنسيون في الخمسينات، وفاز فيه خلال العشريات الاخيرة الاميركيون وبعض الدول الاخرى المنافسة. وهو يمكن من قراءة الخطوط الثابتة للتحولات المستقبلية انطلاقا من تاريخ الواقع وحاضره.
وفيه جزء هام وهو قراءة الاحداث "العابرة" التي يمكن ان تتطور في المستقبل وتكون محددة لمسار المجتمعات والدول.
وفي هذا السياق، يمكن الاقتصار على المثل التالي:
هناك اتجاه نحو التعبئة لفائدة الفكر المحافظ في بعض البلدان العربية : صحيح، تاريخيا، صعدت الحركات المحافظة وانتعشت في ظل الازمات السياسية، او الاقتصادية او الحروب الدامية. فكانت الاتجاهات المحافظة "طبيعية" وهي استجابة انسانية لحاجة الثبات وابتعادٌ من مخاطر الاندثار الهووي.
فكانت "الغال" في فرنسا ابان حربهم المهزومة ضد الرومان، والفرق الاسلامية التي نشب بعضها في اصول الفكر الديني خلال الانقلاب العسكري الاول من نوعه في تاريخ الدولة الاسلامية على عثمان بن عفان وكذلك خلال الانقلاب على الدولة الاموية، وكانت السلفية بداية القرن العشرين وحركة الاخوان بمصر في الاربعينات من القرن الماضي، ثم صعود طيف من التيارات الاسلامية الاخرى، وهي -اعتقد- حركات استجابت الى واقع سياسي او اخلاقي، بطريقة معينة (ليس المجال لتقييمها)، حُكم عليه بالانحياز عن "القيم الثابتة" وهي مرجعية قيمية لتوالد المجتمع على شاكلته في الاجل القريب. واعتقد انّ درسا مستفد هو
(1) عدم طرح القيم المشتركة عل مستوى الفرد، حتى وان كانت عادلة و
(2) العمل عل اعداد بدائل حقيقية لواقع حُكم عليه "بالتأزّم".
الا انّ، الاتجاه "المحافظ الحالي"، الذي نرى معالمه سواءً في حركات واحزاب سياسية وخطابات رسمية، يبدو بعضُها مُفتعلاً لانّه يراهن على الازمة المجتمعية الحالية في البلدان العربية دون العمل الفعلي في حلبة مصالح رأس المال، وبعضها يراهن على خزّان انتخابي .
وقد طالت هذه المعالم اجندات بعض القنوات الاعلامية للدفع نحو الفكر المحافظ (يوتيوب وغيره) ذات النطاق الواسع بالترويج لفائدة فكر ساذج نوعا ما يجعل من الفرد اداةً "ليُصلح ما افسدته الحداثة" من تشتيت للأسرة بسبب "دور المرأة الانتهازي" (كما يُروّج لذلك)، او "الناشز"، أو "المهمِّشة لزوجها"، … أو بسبب القوانين الجائرة في حق الرجل في حالة الطلاق، مع اختيار متحدث في "التنمية البشرية"، لا يُعرف عن رصيد تخصصه شيئًا، او "في الدين"، او متحدثة "شقراء" تجلب الانظار فقط لهيمنة اللون الاصفر او البرتقالي الذي يجلب العين…. وقد تحدّثت مصادر علمية عن الطريقة السلسة في تغيير المجتمعات انطلاقا من عناصر الادراك والحس والذاكرة الفردية (ثالر، الحائز على جائزة نوبل).
وقد يكون هذا الاتجاه المحافظي، في جانبه المُفتعل، جزءًا من استراتيجية طويلة الاجل تخاطب الفرد في وجدانه بأفكار سهلة الاستساغة وسريعة التطبيق، وتهدف الى اعادة تشكيل الوعي وتقوية طرف على حساب طرف آخر وتقبع بالتالي المجتمعات في المنطقة في حالة ارتباك دائم.
اذْ مجابهة "التحيز عن القيم"، لا يعني بالضرورة طمس كل مكتسبات الحداثة التي من بينها "تركيز المواطنة" التي نعيش حاليا عملية ولادتها بصفة جلية في مجتمعاتنا. وهي -كما اعتقد- الشرط اللازم للقدرة على متابعة صعود الاقتصاد السياسي الجديد الذي سيمكّن من ارساء نظام اجتماعي متحرر من نزوات راس المال بالمعنى التقليدي.