أعتقد أنّه لا معنى لحوار بدون الوقوف عند بعض الملاحظات والتساؤلات، لعل أهمّها التالية:
من الواضح أنّ الأمرَ الأبرز، وقد يكون الوحيد الذي تعثّرت إدارتُه ويحتاج الى حوار هو "المرحلة الانتقالية برُمّتها" حيث تأخّرت الاطراف المعنية بها عن ادوارها التي كانت من المنتظر أن تلعبها.
فالنخبة السياسية التي تحمّلت المسؤولية بمُفردها بدون جاهزية مُسبقة – كما يبدو– حَادتْ عن الهداف الأساسي بعدم إرساء "مفتاح جديدٍ لتوزيع الرّيع الاجتماعي"، يختزل علاقة الدولة بالمجتمع ويكون محورَ البرامج الاقتصادية والاجتماعية للأحزاب ويُعطي لمفهوم "الجمهورية" مُحتوىً اجتماعيا وللدّولة مضمونًا يتناسب مع تطلعات الشعب وإرادته. ذلك أنّ "العقد الاجتماعي" المُعلن عام 2014 كان، على عكس ما أتتْ به جُلُّ نظريات الدّولة والتجارب المقارنة، فاقدًا لمُكوّنه الأساسي وهو "مفتاح توزيع جديد" يكون محلّ اتفاق بين القوى الاجتماعية والسياسية. ففوّتت بذلك النخبة السياسية فُرصة "رسملة" الانخراط الشعبي غير المشروط في مسار الدّمقرطة، وأعادت تدوير “مفتاح التوزيع القديم" بل دعمته ومتّنته بقصدٍ بحثا عن فُتات الريع أو بلامبالاة اهتماما بالقضايا الجانبية. فهي مسؤولية تاريخية قد لم تكن مُقدّرة حقّ قدرها.
فتبعثرت الأولوياتُ وتلاشت الجُهود وغاب الوعيُ بمخاطر إضاعة الوقت الثمين في الاجندات السياسوية وفُتح البابُ على مصراعيه لتثبيت آليات البحث عن الرّيع والاستحواذ على "الدّولة" وارتهانها، وأصبح الجزءُ أهمَّ من الكلّ والشخصُّي أهمَّ من المُشترَك والظرفي أهمَّ من الدّائم والنتيجةُ أهمَّ من أسبابها. فتعدّدت الحوارات "الوطنية" من الرُّباعي الراعي الى قرطاج 1 و2، ثم الى الحوار حول التشغيل وغيرها من الفعاليات الاستغراضية ومن إصلاحاتٍ ضرورية لم ترَ النور، أفقدت للحوارات الوطنية معناها ووقعها في المجتمع، بل كانت في خانة أجندات سياسية حزبية ضيقة.
وأمّا عن النخب المثقفة، على عكس التجارب الانتقالية الناجحة على قلّة عددها، فقد تمّ استبعادُها عن التدخّل في الشأن العام أثناء الانتقال عندما حادَ جزءٌ منها عن أدواره الطلائعية في تعميق الوعي لدى العامّة بالقضايا المشتركة. فنرى جزءً هاما منها قد انخرط بالوكالة في الصّراعات المغلوطة أحيانا وفي سطحيات الأمور أحيانا أخرى. فطورا يهتمّ بماضٍ يستحيلُ تحديثُه وطورا يُصدّر تشنّجا، وطورًا آخر يسعى الى نشر التبلّد الذهني. فلا هو أعلنَ موقفا عقلانيا حيال القضايا المطروحة، ولا تدخّلَ لتعرية المُغالطات المروَّج لها ولا التزم الصّمت.
وأمَا عن النخب الاقتصادية، المتكونة غالبيّـــتُها من صغار المنتجين غير المؤهّلين لتقمّص مواصفات المقاول على معنى شومبيتر، وأقليّــتُها من كبار التّجار قليلي الاستثمار في راس المال البشري وفي الابتكار، فقد بقيت تتحيّن الفرص لضمان مصالحها ومردودية رأس مالها وتجنّب الإفلاس، فضلا عن عدم قُدرتها على الاستثمار في الدّيموقراطية في بيئة استثمارٍ متدهورة بالمخاطر السياسية والعُنف والإرهاب.
فكانت الحكومات المتعاقبة أداةَ توزيعٍ للريع الاجتماعي بالضريبة وبالتحويلات الاجتماعية، حول نفس التمثيليات القديمة المُبوّبة حسب نفس موازين القوى في ضل تصاعد الحركات الاحتجاجية المتحدية للدولة والتي استثمرت فيها التيارات الشعبوية وافتكّت من خلالها حصّتها في المشهد السياسي والاعلامي في حين أنّ المُهدّدين بصعودها لم تكن لهم الإرادةولم يكترثوا بضرورة الاستباق والتدارك. كيف لا وقد توصلت الشعبوية الى اقحام أجنداتها السياسية في الاجندة السياسية الرّسمية مُستفيدةً من جوهر الشرخ بين أقلّية مُستفيدة من الإبقاء على "مفتاح التوزيع القديم" وأغلبية في طور فقدان مُكتسباتها الاجتماعية وبالتالي قُدُراتها التفاوضية.
أعتقد أنّ الإجابة على الأسئلة التالية محورية قبل الحديث عن حوار وطني:
(1) حوار وطني بين منْ وحول ماذا وماهي اولوياتُه؟ حول سُبل مجابهة الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية أم استراتيجية التنمية المناطقية أو الاحتكار ومسالك التوزيع أو نظام الصرف الأمثل، أو الأمن أو علاقة المواطن بالدّولة، أو مناهج إنجاح المسار الديموقراطي وعلاقته بالتنمية أو استكمال الهيئات الدّستورية أو ضرورة قبول الآخر أم قطع الطريق أمام مخاطر التيارات الشعبوية التي تهدّد كيان الدّولة أم ماذا؟
(2) أليست هذه المحاور من الاهتمامات الأساسية لكل حزب سياسي وطرف اجتماعي خلال الانتقال؟ هل تعدّدت الطروحاتُ ولذلك وجب الحوار؟ أين هي هذه الطروحات؟ حوار سياسي قُلتم؟ حول ماذا؟ ما عسى أن تكون مُخرجاتُه؟ الارتقاء بروح المسؤولية تجاه هذا البلد في سياق هُدنة وكأنّه اعتراف بحرب أُخطئ فيها العدو أم التخلّي عن الأيديولوجيا؟ ما الذي يمنع الأحزاب السياسية من ذلك بدون حوار، فالأمر بديهي ولا يحتاج كلّ هذا الضجيج! تحوير وزاري أم اسقاط الحكومة أو إقرار لجان جهوية تدعو الى لامركزية الحُكم أو تنقيح في الدستور؟ أليس هناك آليّة الاستفتاء؟ أم ماذا؟ أليس هناك انتخابات مقبلة؟ لتدارك الأخطاء السابقة؟ أخطاء منْ؟ ومنْ منح المُخطئين هذه الفرصة للتدارك؟ أليست الانتخابات وحدها هي التي تُسامح وتُعاقب؟ مَمِّنَ الأحزاب قام بنقد ذاتي؟ أليس هناك من هُم جزء من المشكل؟
(3) ما هي مُدّة استغراق هذا الحوار وما هي تكلفته لو لم يحقق أهدافه؟ هل أنّ مُخرجاته الزامية؟ من سيفرض تطبيقها؟ مَمِّن الراعيين للحوار قادرٌ على اعداد منهجية حوار وأجندته؟ أهُم حقيقةً حُكماء أفذاذ؟ لماذا لم يتدخّلوا بحِكْمتهم طيلة العشرة أعوام الماضية؟ أين هم يعيشون؟ وماذا يأكلون وماذا يشربون؟