مع حفظ المقامات والاحترام للكفاءات التونسية في شتى المجالات بالداخل والخارج، باتت القناعة تتأكد شيئا فشيئا انّ النخبة الحالية عموما في مجالات (1) العلم والتعليم، (2) الفن، (3) السياسة، (4) الاقتصاد، (5) الرياضة، (6) المناهج، ((7الاعلام، (8) الادارة، و(9) الجمعيات والنقابات، لا يُنتظر منها الكثير وذلك للأسباب التالية:
(1) أُتيحت فرصة تاريخية عام 2011 لينفرد البلد من بين سائر الشعوب المتخلفة بالانتقال الى مسار الازدهار والتقدم والانتعاش والابداع. فرصةٌ لم تشهدها تونس منذ حوالي قرنيْن من الزمن-وقد لا تعود في الاجل القريب والمتوسط-، حيث اتساع فضاءات الحريات التي لم تُستثمر الا عبثا، وتوافر مقومات الازدهار من اقتصاد متنوع وكثافة راس المال البشري الذي تهمّش وتدهور، وتراكم الوعي بمتطلبات الحداثة (في معناها المعروف بالأدبيات وليس المُسيّس، والسطحي السخيف) الذي تسطّح بالمتاهات.
ولكن اختارت المجموعات (1-9) اعلاه التفريطَ في هذه الفرصة. وكانّ اتفاقا كان مُبرمًا بينها للتشبّث بالمربّع الاول او العودة الى ما قبل انقلاب 1987. فلا فنّانون ابدعوا بالشهادة على عصرهم، ولا اقتصاديون خططوا وانخرطوا في اللعبة ولا سياسيو المعارضة والموالاة تجرّدوا من مناوراتهم العصامية، ولا مجتمع مدني تحرر وانخرط حقيقةً في حمايةً المكتسبات، فكان أمرُنا فُرُطا.
(2) سُئل كرويف -لاعب كرة القدم الهولندي المعروف- لمّا كان مدرّبا لبرشلونا في بداية التسعينات، عمّا اذا كان لفريق اوروبي آخر (نسيتُه الان) فرصة الاحراز على كاس اروبا في ذلك الوقت. فأجاب بانّ ليس له مدافع مثل "كومان" الذي يعوض لاعبيْن وله قدرات بدنية منفردة وبيجّل الكُرات الثابتة، ولا وسط ميدان مثل "جوارديولا" الذي تجده في المكان الذي لا ينتظره الخصم، ولا مهاجم مثل روماريو ولا ستويشكوف…
كذلك شأننا، لم يكن لنا في الاعوام الاخيرة "فيرا زازوايتش"، ولا "روزا لكسمبورج" ولا "زينب الغزالي" ولا "بشيرة مراد" في الحركة النسوية، ولا "ليون تروتسكي" في وسع نطاق ثقافته وانخراطه في الشأن العام، ولا علي شريعتي في عمق نظرته وقدرته على تعبئة الراي العام حول القضايا العادلة والمشتركة… وكانّ نوعية النخب (1-9) اعلاه جاءت في الزمن الخطأ (يحتاج الى تفصيل لان فيه نظام التعليم الفاشل، والسياسات الاجتماعية التوزيعية للفتاة، وغياب جهاز وطني او اقليمي لصناعة راس المال البشري الوطني، وفيه النظام الاجتماعي والقيمي الهش ذو التضارب في المرجعيات الاساسية تحت غطاء التنوع الثقافي، وفيه تغليب أمن الجهاز الحاكم على أمن المواطن منذ عقود علاوة على عبادة الحُكّام لحُكمهم،...). وهذه ملامح ثابتة لا ينكرها الا متعنّت.
(3) لا يذكر التاريخ المعاصر ان التونسيين قد واجهوا كوارث ضخمة-ما لا نتمناه- (حروب ضارية، مجاعة دامت لسنوات عدى تلك التي شُهدت في نهاية القرن التسع عشر، كوارث طبيعية ضخمة،..) مثلما نعلمه من تاريخ اوروبا وبلدان جنوب شرق آسيا، بما يدفع الى وضع المصلحة الوطنية نصب الاعين وعدم المخاطرة بها لدى كل مواطن وكل حزب سياسي وكل مثقف وكل نقابي وكل اعلامي وكل "خبير"… ولذلك، تجد العديد من لا يكترث بالمخاطر الا بعد حصول المكروه.
ولذلك، لا يمكن ان يُنتظر من الجيل الحالي ان يحدث المفاجأة، كما اعتقد ان الذين عملوا جاهدين على تفريط الفرصة التاريخية التي أُتيحت للتونسيين او الذين لم يكترثوا بمخاطر الرجوع الى المربّع الاول او الذين كتبوا اول مقال في الاقتصاد التونسي بعد عشر سنوات وهو بمثابة مدخل عام في الاقتصاد الكلي، أو الذي تساءل في صفحته عن اسباب ارتفاع الاسعار وهو يدرس الاقتصاد منذ ثلاثين عاما، او الذي تشبّث من المثقفين بمقولة "العشرية السوداء" وهو طرف فيها بحلوها ومُرّها….هؤلاء قد انتهت مهمّتهم، وهم الان في الوقت بدل الضائع. ومن الاكيد ان الجيل القادم هو الذي سيصارع قدره بطريقته الخاصة، والاكيد انه لن يذكرنا بخير…