لأنّ أثار الأزمة يتحمّلها أكثرَ كلُّ من كان أبعدَ عن دائرة النفوذ، فهذا نداء عاجل للسيد رئيس الحكومة بأنْ ينشر (1) برنامجَ الحكومة الذي ستتقدّم به لدى صندوق النقد الدولي، و(2) الضمانات ألاّ نُعيد نفسَ الاخطاء الفادحة في السابق حيث المتطلبات الاساسية للاقتصاد التونسي لم تكن في مرمى القائمين على هذا الملفّ.
هذا، ومن المهم الاشارة الى ان التحديات خاصةً في جانبها الفنّي، عالية نوعا ما وتفرض التحكيم من ناحية بين الاهداف العاجلة وهي مالية بحتة، والاهداف الحيوية من ناحية اخرى والمتعلقة بالجانب التنموي-الاجتماعي والتي لا يمكن الغاؤها تحت عنوان "تأجيلها"، لانّ عدم الاستقرار الاجتماعي لا يترك مجالا لأيّ اصلاح!
ومن دوافع هذا النداء، يمكن الاقتصار على العناصر التالية:
1. انّ الاعلان عن برنامج الحكومة واقناع النخبة المثقفة به التي لها أن تساهم في تحسينه مهمّ جدا أثناء الازمة، حيث يُقنع المثقفون ويؤطرون عمومَ الناس حول أهمية البرنامج وضرورته ويغلقون المنافذ للفوضويين والمستثمرين في الازمة. وهذا مع الاسف، ليس من ثقافة الحُكّام الذين لا يولون للمثقفين أهميّة، بل يهمشنوهم.
2. انّ التجارب الماضية كانت محدودةَ النطاق الفعلي : حيث كان الفريق التفاوضي التونسي، مقارنةً بالفريق التقني من ص.ن. د، دائمًا ضعيفا، بحيث لا يتضمن في غالبه متخصصين، ولا يُعِدُّ مُسبقا سناريوهاته المرتبطة بأهداف السياسة الاقتصادية المحلية (التي لم تكن موجودة أصلا) ، ولا أنموذجه الماكر واقتصادي، الاّ في بعض الاحيان النادرة والمبادرات الفردية باستعمال انموذج من نوع "التوازن الكلي المحسوب" الذي لا يصلح لهذه الغاية، بل تجاوزته الادبيات التطبيقية لانّه لا يفي بالحاجة.
وفي هذه الحالة، سيكون الفريق التفاوضي التونسي في موقع المتلقي أو الذي سيرضى بكل الشروط باعتبار موقف الضعف الذي هو فيه. وللشهادة، فان خبراء الصندوق يتقبّلون كل المقاربات البديلة على أن يكون مستوى النقاش عاليا تقنيا وتكون البراهينُ العلميةُ المُقدّمةُ ثاقبةً. فعوض أن يكون تدخل الصندوق عِبئًا مثلما يرى البعض، فبفريق تفاوضي محلي متكوّن من متخصصين ذوي الكفاءة العالية، يمكن أن يصبح الامر فيه فرصة.
3. من المنتظر أن يكون الايفاء بحاجيات تونس التمويلية خاضعا لمقاربة صندوق النقد الدّولي التي تضع التوزنات المالية العامّة والمسار المتقارب لنسبة الديون (a convergent trajectory of the debt ratio) من الأولويات القصوى بما تقتضيه من "تعديل للاسعار" و"كبح جماح الانفاق العام" و"التقليص من نسبة الاجور"و"اصلاح مالية الشركات العامة"، ولكن كذلك في "قانون مالية تكميلي" يتضمّن جزءً من هذه الشروط التي ستوجد في شاكلة "مصفوفة اصلاحات" على مدى سنتيْن أو ثلاث وفق نوع التمويل، حتى ولو استفادت تونس من ضمان أمريكي (قد يساعدها فيما بعد للخروج الى الاسواق المالية بأقل الاضرار) للوصول الى التمويل المنتظر في شكل قرض.
وفي نفس الوقت، سيفيد قرضُ ص.ن.د تونس في الاجل القصير في تمتين هيكلة ميزان الدفوعات واستقرار الدينار والايفاء بالالتزمات العاجلة في تجارتها الخارجية.
4. قد تبدو هذه "الاصلاحات" بديهية، لكن فشلت في انجازها الفرقُ الحكومية الماضية، لانّ :
(ا) القائمين عليها لم يضعوا مصلحة المجموعة نصب أعينهم، و
(ب) تطاول بعضُهم على علم الاقتصاد، و
(د) لم تكن مقاربتهم تشاركية صافية، بل كانت انطباعية اشهارية (exhibitionist) و
(ج) كانوا يؤجلون مجابهة مشاكل عدم استدامة الدّين الذي بيّناه احصائيا من عام 2014، و
(هـ) كانوا يعِدون النقابة بالزيادة الفعلية في الاجور وفي بعض الاحيان بالزيادة المشترطة بالنمو وهم لم يضعوا على أرض الواقع ايّة سياسة نمو ولا صناعية فعلية، وفي نفس الوقت يقلّصون من حجم الموظفين عند التزامهم مع الصندوق، ويفتحون مناظرات الانتداب ويؤجلون تفعيلها، هذا ان لم تُلغى (هذه المناظرات) في الاثناء، وفي نفس الوقت يشتكون من "الاخرين الذين عرقلوهم".
وهذا ليس حُكما قيميا، بل يمكن البرهنة عليه (يحتاج الى تفصيل: من الانتداب والتعيين الى الغفلة عن قضايا النمو والتشغيل والتجارة الخارجية، ثم الى الاعلان عن بطولات زائفة: راجع كل مداخلات يوسف الشاهد ومستشاريه). ولذلك، كان على الفريق التفاوضي الحالي أن يكون -وهذا ما نرجوه- قد نسّق مع أصحاب المصالح من نقابة ومؤسسة الاعراف وأخذ منهم التزاما بدعم الاصلاحات المنتظرة وأعدّ كل السيناريوهات الواقعية.
5. لا يمكن أن يُعتبر قرضُ ص.ن. د. حلاّ وحيدا لما تمر به تونس حاليا من نكسة اقتصادية واجتماعية وخيبة أمل سياسية، الا اذا كانت للحكومة برامج أشمل من مصفوفة الاصلاحات المصاحبة للقرض. فالقضية ليست تمويل عجز في ميزانية بقدر ما تكون الحاجة الى وضع مشكل البطالة والنمو والتنمية المكانية والتجارة الخارجية ونظام سعر الصرف ومأسسة التنسيق بين البنك المركزي والحكومة على الطاولة وتحت أعين المتخصصين (هناك، بل قُل هنالك في تونس)، وهي ملفاتٌ تفاقمت ولا يمكن مجابهتها بالطرق المعتمدة حاليا لانّها ببساطة بالية.