عندما، (1) لا يحمي المواطنُ مالَه ولا سلامة جسده ولا أخلاقه في الفضاء العام من عنفِ قُطّاع الطريق، (2) لا يأمن تهاطلَ الامطار الموسمية وآثارَها على منزله وممتلكاته، (3) لا يجد الخدمات الطبية اللاّزمة في بلدته عند إصابته بأزمة صحية حادّة، (4) ليس متأكّدا من الحُصول على وظيفة بعد التخرّج، (5) ليس له آفاق مستقبلية لأبنائه، (6) ليس متأكّدا من قضاء شؤونه اليومية تُجاه الإدارة، (7) ليس له ثقة في القائمين على الشأن العام، ولا يفهم الاّ صراعات بين مؤسّسات الدولة لا تهمّه أصلا، (8) يتحمّل خطابات رسمية ثقيلة المعاني ومُبهمة في نفس الوقت، لا تزيدُه الا ريبةَ وخوفًا، (9) يقرأُ في الاخبار أنّ مجموعةً من الناس قطعوا الطريق لنقل الفوسفاط لمؤسّسة تابعة للدّولة وأنّ هذه الأخيرة التجأت الى استيراده بالرغم من توافره ومن حاجة الدولة الى العُملة الاجنبية لاستيراد الأدوية والغذاء اليومي، (10) يستمع النداءات من مُمثلي السلطة أنفسِهم المنددة بالإجرام بدون أن يُوقفوه، .... كلّ هذا يعني أنّ الدولة مستقيلة من مهامها وأنها ضعيفة وانّ مُمثليها طرفٌ في ذلك.
وبدون التوسّع في أبعاد الدولة ووظائفها المُنتظرة ونظرة المواطن اليها والعقد الاجتماعي الذي يجمعهُما ومتطلبات الانتقال الديموقراطي وفق التجارب المُقارنة، فإنني أقتصر هنا على تداعيات استمرار الواقع الحالي وادراكه من قِيل المواطن المجرّد وهي على الأقل:
(1) خيبتُه والسّطو عليها من قبل التيارات الشعبوية الصّاعدة التي ليس لها ما تُقدّمه للبلد سوى الاستحواذ على السّلطة وازاحة منافسيها بهدم ما تحقّق ولو كان ضئيلا،
(2) التحالف الوشيك بين الباحثين عن الرّيع من جهة وهذه التيارات الشعبوية من جهة أخرى،
(3) استمالة هذه التيارات لجزء من "النّخب" الجامعية والإعلامية وكذلك الفنية لإضفاء شيء من "المصداقية"،
(4) تصاعد الصّراعات بين وداخل الأحزاب التي أصبحت جزءً من المشكل ولم تتجاوز خلافاتها الأيديولوجية واستراتيجياتها السياسوية الضيقة،
(5) الترويج لغرس وسائل تحليل بدائية ومنفعية سطحية في اللاّوعي الجمعي مثل "أيهما أفضل، قبل أو بعد 14 جانفي" وكأنهم لجانُ تحكيم وليسوا معنيين بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية المشتركة الاّ من خلال تعكير المجال الاتصالي في الفضاء العام،
أو "ما أروع هذا السّياسي الذي هتك عرض هذا وسبّ ذاك " وكأنّ مجال تفكيرهم محدودٌ بصراع الديكة، أو كذلك " أيّهما أفضل، الديموقراطية والحرية أو الأمن والغذاء" وكأنّ نطاق الخيال عندهم يُجرِّد المواطن من قيمِه الإنسانية الكونية للنزول به الى أسفل وضع في تاريخ الانسان الذي يقتات فيه فقط للتوالد. وهذا هو الخطر الذي يختزل المسار الديموقراطي الحالي…
أخيرا، على كل التيارات المؤمنة بالتقدمية كقيمة إنسانية كونية أن تدعو ما تبقى من أحزاب ومجموعات مدنية مؤمنة بدورها الطلائعي أن تلتف حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية المشتركة وأن تذهب الى النخب المثقفة وكفاءات البلد الحقيقة الموجودة هناك في تونس، وأن تقوم السلطات الثلاث بخطوة نحو التنسيق بينها لإرساء الثقة بينها، وأن تبادر بالإنجاز في الميدان خدمةً للمواطن في صحته وأمنه ومستقبل أبنائه وليس ذلك مستحيلا ولا صعب التحقيق، حتى لا يسقط السقف على رؤوس الجميع ويُغلق القوسان وتُعلن الصافرة انتهاء الفسحة....