تَعتبِرُ بعضُ الآراء انّ العقل السياسي العربي قائم ٌ على "الاستحواذ على السلطة" كأولوية مُطلقة وذلك منذ قرون، وكأنّه بقي رهينةً لنواميس ما-قبل-الحداثة. وتحتدّ هذه الاولوية وفق السياقات التاريخية وموازين القوى، كما تتراجع وفق المؤسّسات التي تحدثها الدولة ومدى آدائها و"استقلاليتها" وكذلك مقاومتها للتوسع في الحكم (المؤسّسة القضائية، او الدينية، او العلمية..) او مقاومتها للإصلاحات (روبنسون وموڤلو، (2012) وقدرتها على تعبئة الجزء الأكبر من عموم الناس، إذْ لم يتنَحّ العديدُ من الحُكّام الاّ بالوفاة الطبيعية او المفتعلة او بالانقلاب تحت غطاءات متنوعة تهدف أساسًا إلى التبرير والشرعية.
ولإنْ غاب عن المشهد طيلة القرن الماضي بلدٌ عربيٌّ واحدٌ قضى عشريّةً وحيدةً بدون هزات اجتماعية او سياسية او عسكرية، يُبرز التاريخ ان هذه المنطقة او جزء منها يحتاج الى بعض السنين (هبْ عشريةً) من الاستقرار الاجتماعي والسياسي حتى تتأهل للمُضيّ قُدُمًا في مسار الازدهار الاقتصادي والعلمي (الأمويون، العباسيون، العثمانيون،..)، وقد تكون هذه خاصيّةَ المجتمعات العربية، ادعو من خلالها الأصدقاء المتخصّصين بالتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والانتروبولوجيا ليدلوا بدلوهم فيها…
وإذا كان الأمر كذلك، فان هذه الخاصيةَ تُمايز مجتمعاتنا العربية على سائر المجتمعات الأفريقية الأخرى ذات المنحى نحو الخنوع وعدم الاكتراث بالإشكاليات الاستراتيجية (بن خلدون في حديثه عن الرُّحّل والمستقرّين والسُّودان). فكانت المنطقة العربية مُستهدفًا من مستهدفات الاستعمار (او راس المال العالمي) بالاستثمار في تجزئتها (سايسبيكو) والعمل على إتلاف تاريخها (بالدفع نحو القوميات المحلية واحداث البوْن بين المثقفين والشعوب)، وحصارها اقتصاديا وماليا وتكنولوجيا (بأفعالٍ مُصرّفة في المستقبل المجهول: "في طريق النمو"، "في طريق التصنيع"،..) وكذلك ثقافيا (ولو ان هذا المنحى يحتاج إلى نقاش) في سياق حرب غير مُعلنة، هدفها حماية المصالح الاستراتيجية لرأس المال العالمي (لينين، 1921) او لدول المحور الغربي (سمير أمين، 1953).
هذا، وبعد فترة الاستعمار واستنفاذ الخطط التقليدية (…) صعدت مؤشرات "اقتصاد سياسي جديد" منذ بداية التسعينات لعل اهم عناصرها الضمنية كانت في كتاب "اصطدام الحضارات " لسامويل هتنڤتن الذي كان ردّا مُفصّلا لكتاب طالبه السابق في الدكتوراه "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما…
فما رأيكم لو اضحى الهدفُ الاستراتيجي هو "جعل المنطقة العربية" او الجزء الممكن منها في "حالة عدم استقرار دائم" (برلمانات متعاقبة، وحكومات غير مستقرة، ونُظم سياسية قائمة على الطائفية او الأعراق، او الدين، مع قوانين غير مُطبّقة، ومُقدّرات غير مستغلة، واجيال مُنبتّة تفسحُ المجال الشعبوية ومراكمة الريع وتصفع بالمقدرات الهووية والتاريخية مثل تماثيل بوذا في افغانستان، وتراث البابليين في العراق، والمساجد والكنائس في غزة،… )، بحيث تُصبح "معتقلا" لا يركّز فيها مُثقّفوها ولا يستطيعون الفعلَ، ولا يبدع فنانوها، ولا تنجح سياساتها الاقتصادية والاجتماعية ولا التربويّة،… وفي ذلك افضل السُّبُل لقطع الرباط مع امكانية المصالحة مع الذات ومقارعة القدر… لتتضاءل فرص صعود الهند ومصر وتركيا والبرازيل كقوى اقتصادية اقليمية قد تمنح الامل للشعوب…
وقد تكون الأسلحة الفتاكة -لكن الصامتة- التي باتَ استخدامُها بيّنًا جليّا واضحًا في العشرية الأخيرة متمحورةً حول (1) الطاقة، (2) الديموغرافيا، و(3) المياه. فقراءةٌ سريعة في حرب أوكرانيا مثلا تجعل من مجال الطاقة حلبةَ صراعِ أممٍ بأسرها، حيكت فيها الاستراتيجيات الجيوسياسية، وكذلك الحرب على غزة حيث يستهدف الصهاينة الطاقةَ في مياه شرق المتوسط وضفاف مصر الشمالية، وكذلك مياه نهر الأردن والتقليص من الثقل الديموغرافي الفلسطيني، وغيرها من الابعاد المتعددة في المنطقة، وفي مناطق عربية اخرى….
هذا، واذْ لستُ من روّاد نظرية المؤامرة، فانّ المجال لا يسمح للتعرض إلى قابلية بلداننا ومجتمعاتنا في وضعها الحالي للانتهاك بل لانخراط جزء من نخبها في التفريط في هذه الفرصة التاريخية التي تؤشر بصعود عالم متعدد الأقطاب لا مفرّ منه، وهو جوهر الاقتصاد السياسي الجديد…