توصل الجانب التونسي وصندوق النقد الدولي الى اتفاق مبدئي اعتبره العديدُ - بالرغم من فقدان المعلومة وانعدام التصريحات الرسمية، "إنجازًا وثمرةَ مسارٍ طويل وُضعت من خلاله القدراتُ التفاوضيةُ في الميزان وبرهنت على كفاءة عالية من الجانب التونسي لوجود حلول لمجابهة الضائقة المالية التي تمر بها البلاد".
كيف لا والقرض المُتاح (1.9 مليار$) سوف يحقّق مبدئيّا مآرب مهمّة، اذْ سَــ :
(1) يغطّي جزءً من العجز العام،
(2) يمنح "صدقية للدبلوماسية الاقتصادية التونسية" في تعاملاتها الثنائية،
(3) فسح المجال للمانحين متعددي الاطراف الاخرين [البنك الافريقي للتنمية، الاتحاد الاوروبي. بنك الاستثمار والتعمير] للتعامل ايجابيا مع المصاعب التي تمر بها البلاد من خلال "دعم الميزانية".،
(4) يخفف من سلبية التقديرات المستقبلية لوكالات التصنيف السيادي، بما بنجرّ عن ذلك من تقليل من "منحة المخاطر" التي يفرضها متداولو السندات التونسية في السوق المالية الثانوية، و(5) يدعم المخزون من العملة الاجنبية، بحيث يتوسّع هامش مناورة البنك المركزي في عملياته المفتوحة (Open Market).و (Swap).
طيّب.
دعنا الآن من العموميات كما تُطرح حرفيّا في النقاط (1-5) أعلاه، والتي يستسيغها جزءٌ واسع من العوامّ غير المُتابعين، لأنّ الأمرَ ليس بهذه البداهة.
1- من الاكيد ان الصندوق سيفرض شروطا. وهذه الشروط التي تُقاسُ درجةُ انجازها "بمؤشرات كمّية"، موزعة في الزمن وتتعلّق عادةً بــ:
(1) الضبط المالي، وفي حالة تونس،
(أ) التقليص من كُتلة الاجور التي تبقى "الدابّة السّوداء" في أجندة الحكومات المتعاقبة التي تعتبرها السبب الوازن لتوسّع العجز العام، و
(ب) رفع الدعم عن المحروقات، باعتبار العجز التجاري-الطاقي المرتفع، و
(ج) الزيادة في حجم ميزانية الاستثمار لتحقيق التنمية الشاملة.
(2) اعتماد نظام صرف أكثر مرونة، اي ان يكون تحديد سعر الصرف بأقلّ تدخّل ممكن من قِبل البنك المركزي- لان الصندوق يؤمن بأن امتصاص انحرافات سعر الصرف الحقيقي بالوصول الى مستوى توازن السوق يُحقّق في المدى المتوسط مراكمة المخزون من العُملة الاجنبية.
(3) جعل النظام البنكي أقرب الى المعايير الدولية في تمويل الاقتصاد وفي حوْكمته وفي دوره في الوساطة المالية بما يترتّب عن ذلك من تجميع للبنوك العمومية وخصخصة البعض الاخر.
(4) إصلاحات الشركات العمومية التي تُعتبر عبئًا ثقيلا على المال العام.
وبدون الغوص في مدى وجاهة هذه الإصلاحات بالرجوع الى التجارب العالمية التي تفصل بينها حيثيات لم تتحقّق بالسابق ومن الصعب أن تحقق الان، متمحورة حول القدرات المؤسسية والتفاوضية،
(1) فتحديد "نظام الصرف الأمثل" (Optimal Exchange Rate Regime) مثلا، الذي لم يرد الحديث عنه في الدوائر الرسمية سوى في الفيسبُك، يحتاج الى وفد من المفاوضين ذوي المستوى العالي فنيّا حتى يقدّموا نتائج نماذجهم ويُقنعوا بها الطرف المقابل، وهذا لم يتوفّر، بحيث يكون الحديث عنه الان ليس مُجديا.
(2) اصلاح الصناديق الاجتماعية لم يكن تصوّرُه خلال كل السنوات الماضية والحاضرة بطريقة تبتعد عن سُبل إيجاد التوازن المالي المحاسبي الذي هو ليس مستدامًا بالضرورة باعتبار التركيبة الديموغرافية والتحولات في سوق العمل الى غاية ضرورة التمييز بين "نظام التوزيع الحالي" والنظم الأخرى من "الرسملة" أو "النظم المختلطة"، فبقيت الأفكار القديمة تتوالد بين :
(أ) إيقاف التوظيف في القطاع الحكومي، والاعلان عن مناظرات ثم تأجيلها، أو الغاء نتائجها أو ربح الوقت في الخصومات الإدارية، بدون اعداد القطاع الخاص لتولّي دور التوظيف عوضا عن القطاع الحكومي، أو تعزيز قطاع "الإيداع في سوق العمل العالمية" وتنظيميها، أو حتى اعتماد سياسات توظيفية نشطة، …، و
(ب) الغاء الحديث عن الزيادة في الأجور، في ظل ضغوط تضخّمية وتفاوتات اجتماعية ومنسوب عال من عدم الرضا ضمن الناس ممّا يحول دون شروط انجاز هذه الإصلاحات، فضلا عن محدودية نطاق دور الطلب في دفع النمو الاقتصادي، لانّ "التصدير" من المنتظر أن يتجمّد أو يتراجع باعتبار ان أوروبا تراجع فيها اليورو بالنسبة الى الدولار، لكنّه لم يتراجع بالنسية الى الدينار -بل هو في منحى تصاعدي- إضافة الى مؤشرات الركود الحادّ في أوروبا وفي العالم خلال عام 2023، وأنّ البترول لن يراوح 97-95$ للبرميل الواحد حسب أحدث التقديرات وأدقّها! وأمّا فيما يتعلّق بالاستثمار الداخلي العمومي، فانّ هناك "قيودًا بنيوية حيال القُدرات في الانجاز" (Capacity Constraint) بحوالي 5800-6000 مليون دينار، لا يُمكن تجاوزُها في الأجل القصير (لعدة اعتبارات)، ولم يأخُذها بالاعتبار الخطاب الرسمي الحالي والسابق![أقف عند هذا الحد لعدم الاطالة، وقد أرجع الى منظومة الدعم والنظام البنكي والمالي والشركات العمومية المفلسة في المستقبل، من منظور الاقتصاد السياسي].
دعْنا الآن، نرى عن قرب هذا التسهيل المُمدد (Extended Fund Facility) الذي يستبطن احتياطا صارمًا من صندوق النقد الذي يبحث عن ضمانات للقيام بالإصلاحات، وذلك لطول مدّة التحويلات (4 سنوات)، بحيث ستكون في المتوسط السنوي حوالي 450 مليون$ (1472.5 مليون دينار)، أي أنّها ستغطي أحدى المخصصات التالية وليس كلّها:
(1) 6.7 يوم توريد، أو
(2) 1.1% من نسبة تغطية الدين العام بالاحتياطي الاجنبي (الذي هو في عام 2022، 17.3%)، أو
(3) نقطة مئوية فقط (1%) من نسبة العجز الأساسي، (-4.81%) من الناتج المحلي الإجمالي، اذا صُرفت -ولو بتأخّر- في ميزانية 2022، علمًا وانّ "العجز الأساسي" هو العجز العام بدون الاخذ بالاعتبار الهبات والاعانات وموارد الفائدة على الأصول، وهو الذي نعتمده لاختبار استدامة الدين العام التي هي غير متوفرة الشروط في هيكلة المالية العمومية الحالية ولم يتمّ الإعلان عن السياسة المتّخذة لاستعادة استدامة الدين العام.
ولو فرضنا إتمام التحويل الأول من القرض، فان على نسبة النمو في العام المقبل أن ترتفع الى ضعف نسبة النمو المنتظر تسجيلها في هذا العام حسب السيناريو المتفائل (2.3%)، بفرضية نفس سعر الصرف، ونفس نسبة التضخّم ونفس نسبة خدمة الدين العام ونفس نسبة العجز الجاري ونفس نسبة العجز العام الحالية!!! وهذا من الظواهر الاقتصادية النادرة بالنظر إلى الدرجة العالية من هشاشة الاقتصاد الكلي التونسي متعدد الأبعاد.
لذلك وجب اعتبار هذا الاتفاق جزءً من الموضوع الاشمل الذي من الضروري التطرّق اليه من وجهة نظر مختلفة تمامًا، حيث نقطة البداية تكون محلّية بحتة، يلتفّ حولها كل الناس طواعيةً وبوعي وبانخراط فعلي. ولن يتحقق ذلك الاّ بعقد اجتماعي مواطني، مفرداتُه تقدّمية جامعة، وأهدافه غير فردية، ووسائلُه غير عدمية.