نسبة نمو سلبية (-8.8) %، وضغوط تضخمية (5.7) % مؤهّلة للارتفاع بنهاية عام 2021 حسب آخر تقديرات صندوق النقد الدولي الصادرة هذا الأسبوع، وبطالة أكثر من 18% وتدهور جل المؤشرات الماكرو-اقتصادية، تُختزل حسب رأيي في عدم استدامة الدّين العام، وفي آخر المطاف في ارتفاع منسوب "الهشاشة الاقتصادية الكلية".
ولئن كانت هذه الوضعية ليست أسوأَ من قِلّةٍ من البُلدان مثل لُبنان (-25%: نمو، و88.2%: تضخّم، و14.3%: عجز الميزان الجاري)، إلا أنها أخطرُ من واقعِ جُلّ البُلدان غير المصدّرة للنفط والتي تُجيز المقارنة الكُلّية بها مثل المغرب وأوزبكستان والأردن وأفغانستان وجورجيا وأرمينيا وكذلك قيرغيزستان وطاجيكستان، حيث آفاق النمو والاستقرار المالي العام أفضلُ من الآفاق المستقبلية متوسطة الاجل لتونس في سيناريو - حسب اعتقادي- متفائلٍ بعض الشيء (3.8% : نمو، 5.8%: تضخم، و9.5%: عجز الميزان الجاري بنهاية عام 2021).
طيب. هناك العديد من الملاحظات، منها:
(1) كُنّا في الماضي نُقارن تونس أساسًا بثلاث دُول وفق مناهج المقارَنة المُعتمدة في علم الاقتاد الكُلّي التطبيقي، وهي تُركيا، ومِصر والمغرب، عندما يتعلّق الأمرُ بالتوصيف، باعتبار أنّ هذه الاقتصادات الأربعَةَ كانت في التنسعينات تضُمّ تقريبًا بعض القواسم المشتركة، منها أنظمة الأسعار ومرونة العرض والطلب ودرجة حيوية سوق العمل وصلابته ونسب الانفتاح التجاري على العالم وتحديّات التنمية (مع اختلافات طفيفة) وكذلك "برامج الإصلاحات الهيكلية" وما سبقها من "برامج التعديل قصير الأجل"،
لكن هذه المقارنة لم تعُد ممكنة اليومَ باعتبار أنّ مصر وتركيا والمغرب أصبحت نسبيًا أقدرَ -لكن ليست أفضل من بعض دول جنوب شرق آسيا مثلا- من حيثُ مواجهة وامتصاص الصّدمات العشوائية، فضْلا عن قُدراتها النّسبية الأعلى (باختلاف الدرجات) في الوُصول الى التمويل الخارجي وتعبئة الموارد المالية الداخلية، مثلما ورد في تقارير المادّة الرابعة لمشاورات صُندوق النقد الدُّولي خلال السّنوات العشر الماضية.
(2) هناك أمرٌ فارقٌ يميّز بين جلّ الدّول غير النفطية المذكورة أعلاه وتونس، وهيّ أنّنا لم نضع في الواقع سياساتٍ اقتصاديةً بالمعنى المعروف خلال خمس سنوات متتالية، في حين أنّ السياسات الاقتصادية ما هي الاّ جزءٌ من شروط الأداء الاقتصادي الكُلي. بل اقتصر الأمر في أغلب الأحيان على إجراءات جُزئية تخضع أكثرَ الى الدورات الانتخابية والى مآرب مجموعات الضغط ولا تخضع الى حاجيات البلاد الحقيقية طورًا ولا الى علم الاقتصاد والتجارب المقارنة طورا آخر.
وفي هذه الحالة لا يكن الحديثُ عن إصلاحات الا ترويجا سياسيا أو شخصيا، وفي بعض الاحيان يتمّ تضخيم أثار الكورونا على التقهقر الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد حاليا كما بينّا في العديد من المناسبات، في حين أنه وجب وضع الاصبع على "إدارة" الجائحة التي كانت في جوهرها ولا تزال عبثًا مُسيّسةً. "عبثا" لان القائمين على الشان العام الحاليين لا يبدون واعين بالمخاطر التي تحدق بالبلاد ومستقبله.
(3) قد يكمُن أصل المشكل في الجانب المؤسسي في إدارة الشأن العام عموما والاقتصادي خصوصا- والذي يذهب اليه العديدُ من العلماء في الاقتصاد- كشرط مهمّ لإعادة الاقتصاد الى نَـــسَقِه الطبيعي. ويشمل البُعد المؤسّسي كل "قواعد اللعبة" التي تقود الشأن العام. فبقدر ما كانت هذه القواعد مرنةً، وتستجيب الى أولويات البلاد، وشاملة للكفاءات الصادقة، بقدر ما دُفع الاقتصاد الى حركيّته وأزيلت أهم العقبات ووُضعت على أرض الواقع الإصلاحات اللازمة.
فالمُلاحظ يكاد لا يفهم الشّحنة العالية من التوتّر في الخطاب الرّسمي حول قضايا "ميكانيكية"، عادية ولا تحتاج الى هذا الكم الهائل من المجادلة وتلويث المناخات مثل قصة المحكمة الدستورية أو استقلالية البنك المركزي، أو المداولات البرلمانية والتسريبات (على خطورتها) ولكن هناك متاهات تقودُها الفوضوية والشعبوية ويروّجها الرويبضة ويقتات منها المناوئ ويستسيغها كلُّ غشيم، والحال أنّ هناك نسب بطالة وعجزا عاما وتداينا وفقرا نسبيا وافلاس مؤسّسات عامة وخاصة، وما يصاحب ذلك من عُنف بكلِّ أنواعه وضعف للدولة وعدم استقرار سياسي، حينها لا تنفع المعارك الخاطئة، ولا التعبئة حولها ولا المناورات السياسوية ولا الخُطب العصماء.