كيف ولماذا ينشأ الحاكم المستبد؟

تاريخيّا، كان يأتي على قومٍ أحدٌ منهمْ مُــستبدًّا برأْيه، فارضًا عليهم إرادته، واضعًا قوانين لُعبة لا يمكن تجاوزُها، يُشــيّدُ السّجون المُــحصّنة ويستثمر في المُعدّات والآلات والنظم الأمنية لإخضاع المحكومين لإرادته، ويجنّد من يقوم بالتــفنّــن في تنويع أشكال التعذيب والتشريد والإبادة؟ كيف له أن يقوم بذلك في حماية الأغلبية ورضاهم؟ كيف له أن يستولي على مُقدّرات البلاد وثرواتها وخيراتها؟ كيف لهُ أن يحتكر الحِكمة وسدادَ الرأي والقوة والمناعة والحماية؟ بل كيف له أن يناقض فطرة الإنسان الذي خُلق حرًّا؟

والواقع أنّ منذ حقبة ما قبل الحداثة بآلاف السنين، وفي سياق "النشأة الأولى للدولة " نتيجةً لفائض الإنتاج الناجم عن "تقسيم العمل"، كانت أنواع "الاغتراب الاجتماعي" المتعاقبة – التي وُجدت لتبرير "مفتاح توزيع الريع الاجتماعي"، متعدّدةً. فمنها "اللاهوتي"، ثم "الدموي"، وأخيرا "السّلعي". ولكن بالرغم من تقدّم الإنسانية بالعلم على حساب الأيديولوجيا التي هي في آخر المطاف مُحتوى الاغتراب الاجتماعي" -وهو دور العلم في جوهره، وبالرغم من انعتاق جزء هام من البلدان من هيمنة الفرد خلال فترة ما بعد الحداثة الثانية، استمرّت أشكالُ الفردانية في أصقاع أخرى من العالم.

وبالرغم من وجود تفاصيل خاصّة بكل تشكيلة اجتماعية بسبب تاريخيّـــة الظواهر الاجتماعية، إلا أنه قد تكون هناك سمات مشتركة بين عوامل صُعود المستبدّين مهما كانت هذه التشكيلات. ولتحقيق هذه الغاية، أقوم بوصف الإطار الحاضن لنشأة الدكتاتور في مرحلة أولى ثم أتطرّق الى عوامل نشأته الشخصية في مرحلة ثانية.

هذا، والمُــستبدُّ لا يُــمكن له عمُــومًا أن ينشأ ويتثبّت في حُــكمه إذا لم يكن هناك أغلبيةٌ خانعة أو صامتة، أو اختارت التموضع ضمن "فلسفة التأمّل في الكون" (ف. هيجل) عوضًا عن تغييره (ك. ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ). وعادةً ما تكون هذه الأغلبيةُ مجموعةً من الجسيمات المعزولة، الإلكترونات الحُرّة، أو من "الغبار" كما سمّاها الرّاحل بورقيبة وهو واعٍ بحُكمه. وهذا الوضع لا يُنتج الاّ أفرادًا تنتهز أبسط الفرص للاستجابة لأهدافها الشخصية في بــيئة أقرب لانعدام الثقة بالنفس قبل الثقة بالآخرين.

وفي نفس الوقت لا يمكن للمُستبدّ أن يكون كذلك إذا لم يكن له من فهمٍ ثاقب لطبيعة البشر حيث أنّه يعمل على توفير الحدّ الأدنى - لا أكثر-من الظروف الاجتماعية المادية اللازمة فقط لإعادة توالد حُكمه واستمراره. فكما بادر أ. هتلر بمحاربة البطالة وبمبادرة "السيارة الشعبية"، قام بذلك بن علي وأضاف آليةَ تمويل 26-26، ... ذلك أنّ بصناديق "محاربة الفقر" في العالم التي أُنشئت منذ عُـقود وهي كثيرة لم يُمحَ الفقرُ المُطلق والنسبي الى يومنا هذا، بل ازداد. كما يُطوّع المُستبدّ أجهزة الاعلام والتعليم والبحث العلمي والثقافة والفنّ كــرَوَافِدَ لحُكمه المُستبد. فيشكّل الوعيَ الذي يُريد، ويُنشئُ أجيالا كان عليها أن تتعب هُروبًا من الفقر ومن الجَهل ومن المَرض ومن انعدام الأمن، لا تحقيقًا للثراء وللتحصيل العلمي الصحيح ولا للصّحة الجيّدة ولا لتعزيز الامن والاطمئنان. فــتنشأ حينئذ فئةُ المُستفيدين من الاستبداد، تراهم يدافعون عنه في اطار عقدٍ ضمني معه من جهة، وفئة مُهمّشةٌ من جهة أخرى تعيش حدّ الكفاف ولنْ تحينَ ساعةُ وعْــيِــها التاريخي الاّ اذا استوى في نظرها بقاؤها وعدمُه. ومن المهمّ هنا الإشارة الى محدودية الموارد المالية للدولة باتت سلاحًا فتّاكا يُستعمل داخليا وخارجيا لمُقايضة وتأطير المستبدّين في الدول المتخلّفة اقتصادًا واجتماعًا وعلمًا وثقافةً وفنًّا وإعلامًا.

وأمّــا عن ملامح المستبد الشخصية، فبالرجوع الى غاستون باشلار يمكن التمييز بين الافراد على أساس علاقتهم بالمحيط الاجتماعي:

(1) فمنهم من يتموضع كُلّيا داخل المجتمع ونواميسه بحيث تنعدم ارادته لفائدة "الأعراف الاجتماعية السّائدة" ويصبح حينئذ مُغترَبًا اجتماعيا بحيث لا يُنتظرُ منه إلا المُساهمة في اعادة نفس المنظومة الى ما هي عليه بدون الاستقلالية بالفكر ودون ان يتجرّا على تحمّل مسؤولية الخروج على المعهود إن اقتضى الأمر ودون قراءة نقدية للارتقاء بالواقع وانتاج التاريخ. هذا الوضع لا يؤهّل صاحبَه الى أن يكون مستبدا.

(2) ومنهم من يتموقع خارج المجتمع وأعرافه مثل الطفل الصغير الذي يبحث عن "جانب الروعة" (Le pittoresque de l'enfant) وهو لم يطوّر بعد آليات التنشئة الاجتماعية مختزلا الكون في قدراته المحدودة (من حيثُ التجريدُ والتنسيب والمفاهيم والنظام اللغوي بمعنى لودفيغ فيتغنشتاين) في إدراك جوهر الواقع ، فيستلهم تصوراتِه غيرَ المؤطرة اجتماعيا من فهمه الذاتي للمعطيات ليفرضها على محيطه الاجتماعي وكأنها حقيقةٌ مطلقة يشعر جرّاء عدم الاعتراف بها اجتماعيا بالتهميش والعزلة وبضرورة استرجاع حقّ قد نُهب. ومثله كذلك ذلك الباحث المبتدئ الذي لم يتمكّن بعدُ من علمه ولم يقدّر ما لا يعلمه، فيعتبر ما تعلّمه حقائقَ "نهائيةً". فتجده كثير الحسم في قضايا معقدة، قليل الاستعداد للتواصل، رافضا للطرف الآخر. ومنه ينشأ الدكتاتور والمستبد والمتطرف والمتعصب والرجعي والظلامي والمتخلف حتى ولو استعمل أحدث التكنولوجيات لأنه يسقط في مغبة "لا أُريكم إلاّ ما أرى". فالقاسم المشترك بين هذه التمظهرات هو فرض "اقتصار المسافة" مع المحيط الاجتماعي المتصل به وهذا هو معنى العنف الذي يختلف من اللفظ بإهانة الانسان وعدم احترام ذاته الى الصورة المتضمّنة لِمَعانٍ ورسائلَ لا يقدر الناس على مواجهتها الى انتهاك الحرمة المعنوية والجسدية للأفراد قصد تطويعهم لشأن معين، إلى حرمانهم من حقوقهم بنوعية الاكل والشرب ونمط اللباس والحياة الكريمة،

(3) وأخيرا، منهم من يتموقع في منزلة بين المنزلتيين داخل المجتمع وخارجه ويكون مآله وفق إرادته من عدمها في التخلص من انواع الاغتراب وقدرته على الارتقاء بالواقع نحو انسانية أرقى اعتمادا على تعريف ابن سينا للحكمة بأنها استكمال للذات البشرية. إذ كلما ابتعد الانسان عن إنسانيته كلما اقترب من صفة الحيوان بصراع من أجل البقاء يخوضه بغرائزه من شهوات وعنف وسيطرة ونفي الآخر. وكلما ارتقى بإنسانيته كلما سما مبتعدا عن الحيوانية وتعمق في جواهر الاشياء باستقراء أو استنباط النواميس التي تسودها، كلما سيطر عليها وطوَّعَها لإرادته وقّــبِل "الآخر" بإنسانيته.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات