نستشعر أجواء انتخابية وراء تحركات الشارع التونسي في بداية سنة 2021، ونؤول الكثير من الأقوال والأفعال على الدعاية الانتخابية المبكرة رغم أن الموعد الانتخابي العادي لا يزال بعيدا. من زاوية نظر ديمقراطية فإن التفكير بالانتخابات والاستعداد لها أمر إيجابي يكشف الإيمان بالصندوق، ولكن طبيعة الخطاب والمواقف التي نقرأ الآن لا توحي بتغيير قواعد الدعاية ولا أسلوبها ولا هدفها، وهو ما يوحي بإعادة تسخين وجبة مثلجة. إننا نعاين مواصلة حرب الاستئصال والإقصاء السياسي الذي حكم الساحة السياسية والفكرية والثقافية منذ السبعينيات. ولا يبدو في الأفق أن هناك نقدا ذاتيا يفضي إلى تطوير الخطاب والمواقف، بل نستشعر ترديا فيه نذر تجاوز قواعد التعايش الأهلي تحت سقف الديمقراطية.
الاستقطاب الهوياتي متواصل
نزل اليسار التونسي بكل عناوينه وأسمائه السياسية والمدنية للتظاهر (66 اسما سياسيا زائد جماعة قوس قزح) يوم 6 شباط/ فبراير، إحياء لذكرى الاغتيال السياسي الأول بعد الثورة. وفي العنوان البحث عن حقيقة الاغتيال ومحاسبة الفَعَلة، ولكن الشعارات التي رفعت لم تظهر انشغالا فعليا بالحقيقة المنشودة وتحميل المسؤوليات الجزائية، بل استعادت معركة اليسار ضد الإسلاميين، كما لو أن الساحة لا تزال في السبعينيات. (50 سنة هو عمر الشعار المرفوع سحقا، سحقا للرجعية دساترة وخوانجية).
الخلفية الانتخابية للمظاهرة تجلت في الترحيب بمشاركة جمعيات ترفع شعار المثليين لأول مرة في تاريخ التظاهر السياسي، والمثليون عبروا عن وجودهم بعد الثورة بعد منع غير رسمي، وفتحوا باب جدال ثقافي عميق (حول الحرية الجنسية) لكن بقوا في منطقة رمادية، فلا هم من الشارع السياسي ولا هم ممنوعون من الوجود. وكانوا يبحثون عن شرعية وجود ففسح لهم المجال للمشاركة برايتهم (قوس قزح). ونرى في ذلك عملا انتخابيا لأن مؤسسي التحرك لم يفصحوا في أدبياتهم بشكل صريح عن تبني المثليين واعتبارهم أصحاب حق، لكن وزنهم الانتخابي يغري بجذبهم إلى صف اليسار. فالقبول بالحرية الجنسية جزء من خطاب الحداثة الذي يزعم اليسار الدفاع عنه، خاصة وأنه يسهل استعماله ضد الإسلاميين أعداء الحريات.
لم يحضر المثليون فقط، بل شاركت الفاشية في التظاهر واتضح أن تحالف اليسار معها لم يعد يعتبر مذمة سياسية. فإذا كان توسيع التحالف ضد حكومة النهضة ضروريا، فكل حليف مرحب به بقطع النظر عن خلفيته. فقاعدة لقاء الجميع هي الاستقطاب ضد النهضة.
إلى جانب ذلك تم التأكيد على كثافة الحضور الأمني، وقد سعى بعض رموز المظاهرة إلى الاشتباك مع الأمنيين بنعتهم بمليشيا الغنوشي، وقد حصلوا على رد فعل عنيف بما أسس لخطاب الضحية المقموعة ونعت الحكومة بالقمع ومعاداة الحرية. وهذه سردية انتخابية أولا، فالضحية يستجدي التعاطف. وسيكون هذا الموضوع ركنا أساسيا في الخطاب الانتخابي للسنوات القادمة في معارضة حكومة المشيشي القمعية، وسنراقب عمليات استفزاز الأمنيين بشكل متكرر لتثبيت وضع الضحية المفيد انتخابيا، مع نسبة كل القمع لحزب النهضة وقد بدأ نعت الداخلية بأمن الغنوشي. ورغم ما في النعت من فجاجة، فإن الطريق المتواصل عليه (وهو عمل يتقنه الإعلام اليساري) سيحوله إلى حقيقة ثابتة.
النهضة تفشل وإن نجحت
الانحراف عن الحقيقة ظهر في توجه الخطاب نحو إدانة حكومة المشيشي وشخصه ونعته ببيدق الإسلاميين، دون توضيح نواقص حكومته ومناحي فشلها وهي التي لم تبدأ بعد. هذه الإدانة هي إدانة سياسية انتخابية تعمل على تهرئة الائتلاف الحاكم وعاموده حزب النهضة، والتغاضي عن كل إنجاز محتمل.
لقد نزلت النقابة مع المتظاهرين وتبنت شعاراتهم ورددت نفس الخطاب، في الوقت الذي كانت تمضي فيه اتفاقا مع الحكومة حول مطالب قيمي التعليم الثانوي ولم تسجل ذلك في النجاحات، بما يجعل الحكومة مدانة مهما فعلت.
وتعرف النقابة قبل غيرها أن إحدى المعضلات التي تعيق هذه الحكومة هي تعطل إنتاج الفوسفات، أول ثروة وطنية ترفد الموازنة، بفعل النقابة نفسها. وليس لهذا التناقض إلا معنى واحد: منع الحكومة من النجاح لبناء شرعية انتخابية على فشلها.
وفي هذا السياق نذكر بأمر مهم، وهو أن تكليف المشيشي كان محل ترحيب من قبل اليسار والنقابة خلال الأسبوع الأول من التكليف، فلما اتجه الرجل إلى الاعتماد على حزام برلماني فيه حزب النهضة انقلبت المواقف ضده 180 درجة، فصار بيدق الإسلاميين ويخصص البعض على أنه بيدق الغنوشي.
قبل ذلك كان الموقف من حزب قلب تونس قد تغير لنفس الأسباب، فالقروي لم يكن فاسدا وحزبه كان حليفا محتملا، خاصة أيام انتخاب رئيس البرلمان ثم في محاولة سحب الثقة منه، لكن تحالف قلب تونس والنهضة لدعم الحكومة جعل القروي فاسدا وحزبه وريث التجمع. فما المنطق في كل هذه المواقف؟ إننا نقرؤها كمواقف انتخابية تستعد لسحب البساط من تحت حزب النهضة قبل أن ينجز أي شيء يمكن أن يفيده انتخابيا. ولا ضير هنا أن تتعطل حياة الناس إذ تعطل أعمال الحكومة. هذه الحكومة تواجه معارضة لا تقر لها بنجاح وإن فعلت.
الحكومة تملك فرص نجاح حقيقية
متى يمكن أن تسقط هذه الحكومة؟ الأفضل لهذه المعارضة أن تبقى الحكومة في مكانها وتفشل، ففي فشلها نجاح معارضيها. ونعتقد أن هذه المعارضة ليست جاهزة بعد للدخول في انتخابات سابقة لأوانها، ولو جمعت المثليين والفاشية في ائتلاف واحد، لذلك سنراها تمارس الإفشال المنهجي بواسطة النقابة المحترفة (نتوقع عودة موجة الإضرابات في القطاع العام دون الخاص في ربيع 2021)، وباستفزاز الأمن بنعته بمليشيا الغنوشي، وبفتح قضايا ثقافية من قبل حقوق المثليين وتجر النقاش إلى التوريط الذي اتخذ كمنهج عمل سياسي منذ انتخابات 2011.
وهذه ثلاثة محاور متماسكة تجلت في مظاهرة السادس من شباط/ فبراير، نعيد تلخيصها هنا؛ أولا المشيشي ضعيف وعاجز وهو ألعوبة بيد الغنوشي، وثانيا حزب النهضة يستعمل الداخلية ضد الحريات، وثالثا يعادي حقوق المثليين بخلفيات دينية (داعشية).
هل تشتغل المعارضات في الديمقراطية بتعطيل بلدانها؟ المقارنة هنا تبدو رومانسية حالمة، ففي تونس يسبق قتل الخصم سياسيا على المشاركة في بناء البلد من موقع المعارضة. لكن هذا الخطاب يعطي الحكومة فرصة السبق بشروط ممكنة، ملخصها المرور إلى الإنجاز.
فرصة الحكومة المتاحة هي ألا تولي أهمية لهذا التعطيل، وتمارس التجاهل عبر تحقيق إنجازات ملموسة تصل فائدتها للناس الذين يقفون خارج هذه المعارك الأيديولوجية. وهناك مجالات فعل مفتوحة وذات مردود سريع، منها على سبيل المثال لا الحصر حماية الفلاح التونسي من لوبيات الاستيراد الكامنة في وزارة التجارة. فمن المعيب للحكومة أن تضخ في السوق مواد غذائية مستوردة في مواسم ذروة الإنتاج الفلاحي لنفس المادة (وما البصل المصري المورد حديثا إلا مثالا).
تملك الحكومة أن ترى بعينها لا بعين الرئيس الذي يعارضها فرصة تسويق ممتازة في ليبيا التي تتعافى سياسيا، وهذه الوجهة تحيي سوقا أغلقتها الحرب وانحياز قسم من التونسيين إلى صف حفتر وفريقه السياسي. لا شيء يمنع زيارة رئيس الحكومة إلى طرابلس زيارة اقتصادية، بل لعل في ذلك كان ردا مفحما للرئيس الذي يستولي على العلاقات الخارجية للبلد ولا يقدم أية خدمة للناس. تنشيط العلاقة الاقتصادية مع الجار الشرقي سيعطي للحكومة أجنحة تطير بها، فتترك تحتها معارضة لم تجد برنامجا حقيقيا تعارض به وتبني عليه احتمال عودة للحكم من موقع منتج لا من موقع مخرب.
تحتاج الحكومة إلى خوض معركة شجاعة ضد النقابات المنفلتة في كل مؤسسات القطاع العام، ولديها وسائل كثيرة لإيقاف العربدة النقابية. إن كثيرا من أعمال النقابة تحتاج إلى الاستعانة بتحكيم دولي من نقابات السيزل التي ينخرط بها الاتحاد العام التونسي للشغل. وكشف ممارسات النقابة سيكون كفيلا بلجمها دون المساس بحق الإضراب والاحتجاج. ونعتقد أن مجرد التلويح بإنهاء التفرغ النقابي سينهي الكثير من الشعور بالإفلات من العقاب.
هذه معارك مشروعة طبقا للقانون وتحتاج شجاعة لم توات الحكومات السابقة، رغم وعيها بالضرر الذي أحدثته النقابات في المؤسسات العمومية المنتجة ومنها الفوسفات. ووحدها هذه النجاحات ما سيضمن بقاء الحكومة وتجاوز معارضة لم تخرج من عقل الإقصاء السياسي، وليس أفضل من الإنجازات المحسوسة لربح الانتخابات القادمة مهما كان موعدها.