في فوضى الأحداث المتسارعة في تونس يحتاج المتأمل أن يعيد ترتيب بعض الأوراق / المعطيات/ الوقائع لعل بترتيبها تنكشف بعض وجوه المعادلة الغريبة التي حكمت البلد منذ انتخابات 2019. في محاولة إعادة الترتيب يظهر كأن انقلاب الرئيس ليس هو الانقلاب الحقيقي الذي حدث في تونس، بل سبقه انقلاب آخر أعمق وأكثر تأثيرا وما انقلاب الرئيس الا نتيجة له. أو ثمرة من ثمراته في انتظار جني بقية ريعه في سلة المنقلبين دون ضجة إعلامية. أعني هنا الانتقال الجماعي أو الهجرة من نبيل القروي (التقدمي الحداثي) إلى قيس سعيد (الإخواني الداعشي). وقد سبق أن انتبهنا إلى هذا الانتقال في حينه والذي تم على شكل موجة هجرة جماعية منظمة، ولكن لم نتفطن (والغفلة مرض عضال) إلى أهميته وتأثيره إلا بعد أن أنجز مهمته الأساسية بانقلاب 25-07 .
لقد انكشفت المواقع وتعرت الوجوه والنوايا فإذا هو انقلاب عميق وإن لم يطابق في شكله شكل الانقلابات السريعة. ونرى هذا مفتاحا يفسر ما نعيش ونعاني من انقلاب الرئيس.
تذكير بالاصطفاف في انتخابات 2019
كان كثير من المتابعين لاستطلاعات الرأي في الفترة السابقة على الانتخابات لا يأخذون الأرقام والنسب المعلنة بالجدية الكافية خاصة وأن مؤسسات السبر لا تحظى بسمعة طيبة لدي غالبية المتابعين. وكان تقدم قيس سعيد في الاستطلاعات معطى غريبا بالنظر إلى أن الشخص يأتي من المجهول السياسي فهو شخص بلا ماض نضالي وليس له أية تجربة سياسية حزبية أو نشاط جمعياتي. وقد مال كثيرون إلى رواية بدت منطقية في حينها أن تقدمه يعود إلى أنه مرشح حزب النهضة المدسوس في قائمة الشخصيات المحتملة للرئاسة. وقد رجح هذا الميل التدين الظاهر للرجل والمواقف المحافظة التي أعلنها في مسألة الميراث ومسألة المثلية وهو ما لم يستطع حزب النهضة تحمل كلفته وخضع فيه للابتزاز ففقد الكثير من قواعده المحافظة. وتضاعف هذا الشك من خلال عدم جدية تصويت النهضويين لمرشحهم في الأيام الأخيرة (عبد الفتاح مورو) كما لو كان ترشيحه مسرحية كما روجعت تصريحات سابقة للرجل لم يبد فيها أية نوايا أو موقف استئصالية بل سجل عليه مديح لبعض مواقف حزب النهضة.
هذه التأويلات حددت الاصطفاف في الدور الأول من الرئاسيات فمال صف الحداثيين أو التقدميين (وهي تسمية يطلقها البعض على أنفسهم دون دليل) إلى التصويت للزبيدي الذي أعلن خطابا استئصاليا صريحا. وقد قلل من حظوظه أن الخطاب الاستئصالي كان محل منافسة فلما سقط مال الاستئصاليون ميلة واحدة وراء نبيل القروي صاحب قناة نسمة التي كان فتحها منذ الثورة لحرب الاستئصالي السياسي وظهر فيها كل متكلم بالاستئصال. وبناء على تاريخه صار هو الخيار الأخير للصف الاستئصالي بينما مال حزب النهضة الى قيس سعيد وخدم حملته بقوة ووظف هياكله ورجاله للدعاية وأنفق على ذلك بحماس. وعند صدور النتائج كان هناك يقين متفش في قطاعات واسعة من النخب أن النهضة قد وضعت مرشحها في قرطاج. لكن الصراع حول حكومة الحبيب الجملي (التي سقطت قبل تشكلها) وحل محلها اقتراح حكومة الرئيس (بترشيح إلياس الفخفاخ) كشف أن الرئيس ليس عصفور النهضة وأنه يعمل لحسابه وفي كل الأحوال لحساب جهة غير النهضة. وهنا تغيرت الريح وبدأ الاصطفاف الجديد الذي لا يقل أهمية عن انقلاب كامل.
هجرة جماعية وراء قيس سعيد.
مع حكومة الفخفاخ فرطت النهضة في موقع الحزب الأول الذي يفرض خياراته بقوة الصندوق وركنت إلى موقف ثان أو ثالث وراء أحزاب أقل أهمية وفرطت في موقع المعارضة وكانت بداية التراجعات الكبيرة التي انتهت بها الى إسناد حكومة المشيشي كمتراس أخير رغم فقرها البرامجي وعجزها الظاهر. في هذه الفترة (2020) هاجرت نخب القروي (الذي صار زعيم الفاسدين بعد أن كان رمز التقدمية) وراء الرئيس ولحست خطابها التقدمي وغضت الطرف عن داعشية الرئيس. (لم تثر مسائل الميراث ومسائل الحرية الجنسية والمناصفة منذ ذلك التاريخ).
اللافت أن هذه الهجرة تمت في وقت وجيز وبشكل جماعي بما يوحي أنها تلقت أمرا بتحرك جماعي. باستثناء حركة الشعب التي كانت رابطت وراء الرئيس منذ الدور الثاني بلا تحفظ. كان ربيع 2020 هو ربيع الانتقال من نبيل إلى قيس واختفى من الإعلام حديث (قيس غواصة النهضة).
ما هي الجاذبية الخاصة التي استعملها الرئيس لجذب هذه القاعدة والتخلي عمن صوت له بشكل مكثف. هنا مفتاح فهم انقلاب 25.
نرجح يقينا أن الرئيس لم يبذل جهدا في هذا الأمر ولكنه انتبه أو نبه إلى أن القاعدة الجديدة هي الأقدر على حمايته في موقعه فبدأ التحرك نحو تنفيذ برنامجه الخاص المتعلق بتغيير النظام السياسي. تلاقت مصلحته مع مصالح القاعدة المتحولة. ولم يكن عسيرا عليه أن يفهم أن تنفيذ برنامجه السياسي غير متاح مع وجود كتلة وزراء نهضويين في التنفيذي وبرلمان يقوده زعيم حزب النهضة برغم تشويش الفاشية عليه.
يمكننا الآن أن نفهم بوضوح كاف معنى قوله في بعض خطاباته (إنهم يريدون استعمالي لغاياتهم ولكني أعرف كيف استعملهم). فهل استعملهم فعلا؟ أم حصل تقاسم مهام؟ نميل إلى التفسير الثاني فتفجير قضايا الفساد وتوريط الفخفاخ ودفعه إلى الاستقالة كان عملا منظما من طرف يملك توجيه الرأي العام بما في ذلك حزب النهضة الذي أكل الطعم واجتهد في إسقاط الفخفاخ دون اطلاع على بقية الخطة البعيدة المدى. وقد ظن أن إسناد حكومة المشيشي انتصار على الرئيس وقد صارت المعركة بينهما جلية. وبدأ الإعلام المملوك لهذه الجهة يشتغل على عنوان واضح ودقيق الغنوشي ضد الرئيس. فيما تواصل الفاشية مهمتها الوحيدة العبث بالبرلمان حتى انتهى الجميع إلى مشهد وحيد يجب تغييره (البرلمان لم يعد يخدم البلد ويجب حله).
مَن هذه الجهة المتحولة؟ يمكننا نرى في مقدمتها كل وجوه اليسار الفرنكفوني وهو نخب تسكن مفاصل الدولة وتتوارثها ولها تأثير بالغ الأهمية على عمل الإدارة(منذ العهد البورقيبي) ورغم أن عددها قليل فإنها تظل الماسك الحقيقي بماكينة الإعلام منذ عهد بن علي وإلى جانبها وجوه اليسار النقابي الذي استولى على النقابة وحماها من كل دخيل حتى أنه لم يجد معارضا من داخلها و من خارجها للانقلاب الذي حدث داخلها ومدد للقيادة دون وجه من قانون. (انقلاب النقابة هو جزء أو خطوة تمهيدية لانقلاب 25) وقد انكشف هذا بعد وقوف القيادة النقابية مع الانقلاب بلا تحفظات جدية. ونجد فيها النقابات الأمنية التي يقودها من تبقى من جنرالات بن علي بالداخلية (وتشكل العمق الحقيقي لحزب الفاشية). وكل هؤلاء يشتغلون كواجهة أو طاقية إخفاء لطبقة الفاسدين المرعوبة من احتمال المحاسبة.
والمثير للعجب أن هذه القاعدة المتحولة أحاطت بالرئيس إحاطة كاملة حتى أنها همشت ولا تزال مستمرة في تهميش القاعدة الشعبية التي اصطنعها الرئيس بتنسيقيات مجهولة (تسكن مجموعات مغلقة في الفيس بوك ولا تظهر للعيان لقياس حجمها الحقيقي). لكن نسمع الآن منها تضجرا يفيض على صفحاتها بأن الرئيس أهملها وتخلى عنها وكذب في وعوده.
(لقد قدم الرئيس دون وعي خدمة جليلة لهذه الشريحة بتعيين شخص بلا تجربة على محافظة بنزرت في الشمال كشف بسرعة هشاشة الأشخاص المسيرين لتنسيقياته) فأعطى بذلك حجة على جهله بالناس وبالإدارة. حتى أنهم تجرؤوا على حكومته فظهر فيها متهم بالإرهاب موضوع على قائمات المخابرات العالمية. (من استعمل من في هذه المعركة؟) الغبار يتجلى عن انقلاب حقيقي على نتائج الصندوق وما الرئيس فيه إلا وسيلة. هل هو بصدد اكتشاف الخديعة التي تعرض لها لذلك يرتفع صراخه بخطاب السيادة وحرية القرار؟ هذا الجئر من تلك الخديعة. وهو يعيدنا إلى نقطة بداية تحتم قول جمل فاصلة.
الجمل الفاصلة.
المنقلبون على نتائج الصندوق هم الذين استعملوا الرئيس كرأس حربة لقطع الطريق على كل احتمالات عودة الصندوق الانتخابي. إنها الدولة العميقة دولة الفساد والاستبداد المرعوبة من كل منجزات الثورة (المنجزات التي تتعرض الآن إلى تحقير وتوضع موضع سخرية).
هذه الدولة تشتغل بحماس ولكن من وراء ستر كثيرة لإعادة البلد إلى وضعه قبل الثورة بحيث تتوقف كل خطابات المحاسبة ومقاومة الفساد (التي لا تزال في مرحلة الخطاب والرغبات). هذه الطبقة لم تضار حقيقة من الثورة ولكن خطاب المحاسبة ظل مهيمنا فوق رؤوسها ويهدد وجودها.
وضع البلد قبل الثورة هو وضع بلد هامش في الاقتصاد الفرنسي. كان في النية أن ينفذ ذلك نبيل القروي ولكن فشله وسقوطه لم يعق هذه القوى فانتقلت وراء الاحتمال الأخير لتنفذ برنامجها. بما يكشف حقيقة الاسناد الذي تتلقاه من الخارج. وتحتمي به من احتمالات العودة إلى المسار الديمقراطي (الهش نعم).
هذا الانتقال والاصطفاف والدفع الى الانقلاب وتنفيذه بوسائل الدولة الصلبة يوضح المعركة الحقيقية للثورة فيعيدها ضرورة إلى منطلقاتها كثورة تحرر وطني يقوم فيها كل مدافع عن الحرية بتصويب رميه ضد الموجه الحقيقي للأحداث. إنها ليست معركة التقدميين ضد الإسلاميين (الظلاميين) وان كانت هذه معركة فرعية داخل المعركة الأصلية. بل معركة شعب يطمع إلى الحرية والانعتاق ضد مستعمر يملك أدوات محلية تقبل كتفيه. وإذا أصر الإسلاميون على أنها معركتهم الخاصة فهم يتيهون بدورهم عن جوهر الصراع ويحشرون أنفسهم في زاوية ضيقة ويدفعون الناس إلى الانفضاض من حولهم.
تلك الهجرة وراء الرئيس كانت أمرا فرنسيا (وهذا سر حركة السفير الفرنسي السابق واللاحق بين نخب تونس) وخرافة الديمقراطية المباشرة أو المجالسية نكتة يضحك بها المنقلبون حقيقة على المنقلب وهما وهو يظن نفسه يستعمل الناس لغاياته وما هو في الحقيقة إلا وسيلة أو طاقية إخفاء…وعندما يستفيق على وهمه سيكون الوقت قد فاته ليستدرك. لقد استعادت منظومة الفساد والاستبداد دولتها وبأصوات قوم ظنوا لغفلة منهم أن قيس سعيد رجل دولة.