بلا معطيات دقيقة وبلا معرفة بالكواليس المحلية والدولية إلا تخمينا، أحاول تلخيص الوضع في تونس بعد شهور ستة من الانقلاب. لا أحد يحكم تونس الآن، ويوشك المرء أن يقول أن قدرة الله الخاصة تحمي البلد من الفوضى والانهيار.
نذر أزمة اقتصادية لا مثيل لها في تاريخ البلد تجثم على الصدور، ووراءها تتخفى أزمة اجتماعية قد تعصف ببقية دولة لا تفلح في شد حزامها. لقد اتضحت تقريبا مراكز القوة في البلد بشكل غير مسبوق، وعرف كل أناس مشربهم. هناك مراكز قوة مالية نافذة وتخطط مستقبلها، وقوى دولية تخطط في مكاتبها لضمان مصالحها المحلية وتتحرك في الكواليس بجرأة منقطعة النظير، وقوى سياسية تملك قدرا كبيرا من الشارع وتخطط للبقاء والعودة، وقوى سياسية وضعت بيضها في سلة الانقلاب وهي تخسر مواقعها وتراهن على احتمال فوضى أخير قد ينقذها من اختياراتها الفاشلة. وهناك قناعة ثابتة لدى الجميع يبنون عليها بيقين، لقد سقط الانقلاب والجميع يخطط لما بعده مستقويا بالمال مرة وبالشارع أخرى.. لنفصل.
عرض مراكز القوى وأحجامها
نستعير التعبير من زمن السادات.. تونس ليست وحدة وطنية صماء (كما اشتهى الزعيم يوما)، الزعيم نفسه خلق مراكز قوة نحن نعاني منها. ومراكز القوى ليست متوافقة على التمشي الديمقراطي فكثير منها يخسر بالديمقراطية، وقد حاربتها منذ الثورة وأسندت الانقلاب هروبا من الاستحقاق الديمقراطي وقد اكتشف خساراتها بعد ستة أشهر.
هناك قناعة ثابتة لدى الجميع يبنون عليها بيقين، لقد سقط الانقلاب والجميع يخطط لما بعده مستقويا بالمال مرة وبالشارع أخرى.
المركز الأقوى هو لوبي المال، والأعمال، ومركزه الساحل ،والعاصمة. ليسوا على قلب رجل واحد إلا في معاداة الثورة والخوف من المحاسبة، فكثير من مالهم وسخ وقد حصلوه في زمن ابن علي ولم يستنكفوا فواصلوا، خاصة بعد التخلص من أصهار ابن علي (الطرابلسية) وورثوا تقاليدهم وضغطوا واستخدموا الإعلام. بل صنعوا السياسات من وراء حجاب، فهم فئة تحسن التخفي واستعمال الواجهات فلم تكن لهم يوما شجاعة التعبير السياسي عن وجودهم، لذلك ليس في تونس حزب ليبرالي بالمعني المرادف لحزب تاتشر أو ميركل (حزب النداء كان حزبهم، وبه نجوا من المحاسبة)، لذلك فإن مطالبهم الآن؛ غير مهم توقيت سقوط الرئيس، ولكن نحكم بعده وبشروط أهمها عدم فتح ملفات الفساد القديمة، وتفكيك المؤسسات العمومية لننال منها قطسنا كما فعلنا مع ابن علي وخاصة الضيعات العمومية أو أراضي الدولة، ومن يهادنهم على هذا يفوز بدعمهم ليحكموا من وراءه.
مركز القوة الثاني هو السفارات الخارجية، وهي فاعل رئيسي في بلد يزعم السيادة. السفارات (الدول الكبرى) تتصارع على تونس، وهي تخطط الآن لما بعد الانقلاب، وكل يريد وضع طرف داخلي في موقع تنفيذي ليحكم من خلاله. تستوي في ذلك سفارة الإمارات وسفارة واشنطن، وطبعا سفارة فرنسا (مالكة البلد من قرنين) قبل الجميع. نية واحدة مع فوراق في القوة، تحالفات تبنى وأخرى تنهار، لكن تونس عند الجميع غنيمة مجزية. سنعرف الفائز منها بعد الانقلاب عندما نجد حليفه الداخلي في موقع حكم، لكن أمرا يقينا يتجلى؛ البلد يقاد من خارجه إلى مصير تعرفه ثم تحدده السفارة الغالبة، وقد يتم اقتسام المغنم ويرتب المشهد طبقا لمصالح السفارات.
مركز قوة آخر هو الجيش (المجهول الكبير لدى كاتب الورقة)، يتهمه البعض بإنجاز الانقلاب من وراء ستار، بينما يراه البعض يحمي البلد بالحد الأدنى السياسي خشية أن يسقط بين يديه فلا يستطيع له حملا. وقد ضاعف الانهيار الاقتصادي من مسؤولية الجيش، فالغول الاجتماعي الهاجم قد يكلف الجيش ما لا يطيق من فرض الأمن والحفاظ على السفينة من غرق نهائي.
مركز قوة أخير هو الشارع الديمقراطي المعارض للانقلاب والحريص على الديمقراطية، ومحوره حزب النهضة الإسلامي ومن التحق به من الطيف الديمقراطي المتمسك بالدستور والشرعية، يملك الشارع بقدر كبير وهو الوحيد القادر على تحريك الآلاف والمفاوضة بهم على المستقبل طبقا لقواعد الديمقراطية. وكل فشل للانقلاب يصب في مصلحته، ويمكنه أن يستثمر في الأزمة الاجتماعية لكنه يتريث فيتحول إلى أمل عند العقلاء المتوجسين من الفوضى، ونلتقط تسريبات عن بدء التفاوض معه من جهات كثيرة لما بعد الانقلاب.
شتات الحزيبات الاستئصالية المتمترسة في النقابات خاصة لم تعد مركز قوة فعال، رغم مواقعها في الأجهزة وفي الإدارة وفي الإعلام. وهي تخسر بسرعة قياسية قدرتها على الإيذاء، وقد أكل الانقلاب من رصيدها القليل أصلا، ومشروعها الاستئصالي يخرجها من الصورة لأن التردي الاجتماعي لا يسمح برفاه حرب استئصالية على طريقة ابن علي. وهؤلاء لا يجيبون كما لم يجيبوا أبدا عن السؤال البسيط: ماذا بعد إعدام خصومهم الأيديولوجيين؟
المشهد القادم يرتب دون الانقلابي
الجميع في الداخل تجرأ على الانقلاب، والكل يقول مسألة وقت ونعبر المفازة، لكن بلا جدول دقيق أو خطة مقروءة، فالجميع يتربص بالانقلاب وببقية العناصر المكونة للمشهد. تأخر رواتب شهر يناير أنذر الجميع.. يروج قول مشترك: "دعه يتآكل من داخله حتى ينهار وحده"، فاستطلاعات الرأي ما زالت تعطيه شعبية فوق الخمسين في المائة. تكتيك مفيد مرحليا، ويخفف كلفة النضال لكنه يؤجل الأزمات التي ستقع على الفائز بعده، وهنا يوجد سوء تقدير كبير للمرحلة (نوع من الترامي بكرة اللهب).
سيكون هناك فعلا ما بعد الانقلاب دون الانقلاب، ودون مشروع الحكم الذي ينويه (فالجميع يرى القذافي يعود ويضحك ساخرا). سيترك هذا الانقلاب شرخا كبيرا بين فلوله وبقية الطيف السياسي، وهذا أثر موجع سيدوم طويلا وسيكلف الكثير للوحدة الصماء المتخيلة. في أي صندوق انتخابي قادم سنتحدث طويلا عن التصويت العقابي وعن نسب المشاركة الضعيفة، وترميم الأمل في الصندوق سيتأخر طويلا (لقد أصاب الانقلاب الديمقراطية في مقتل).
الوضع القادم لن يخرج عن مشهد تقسيم كعكة تأخذ فيها مراكز القوة المذكورة أعلاه أقساطها كل حسب قدرته التفاوضية.. نفوذ واشنطن في القارة الأفريقية عامة وفي شمال أفريقيا خاصة سيمر من تونس، لقد سبقت الفاغنر المارينز في القارة وواشنطن تلاحق ولا تسبق. هناك حديث فيسبوكي كثير لا يخلو من صحة عن حلف أمريكي ألماني تركي يتحرك في المتوسط، ويجد في تونس مدخلا إلى أفريقيا وله حلفاء في الداخل. ويقابله حديث مماثل عن حلف فرنسي مصري روسي صيني وله حلفاء في الداخل أيضا، والجهتان لا تثقان في الانقلاب وكلتاهما تعمل على ما بعده.
قوة المال متمرسة بالكيد السياسي وتملك قدرة على الإرباك (حتى الإرهاب يعمل لمصلحتها)، وهي تتربص لمصالحها مع أي طرف فائز لتنقل بيضها إلى سلته وتواصل عملها على طريقة الطرابلسية.
الطيف الديمقراطي هو الطرف الوحيد الذي يرفع من رصيده السياسي والأخلاقي في الشارع بمعارضة مبدئية للانقلاب، لكن فقره المادي يعيقه عن التأثير الفعال (هؤلاء هم حزب الفقراء السياسي). لذلك فإن منجاته هي الصندوق الانتخابي، فإذا تنازل عنه في صفقة "إيثار السلامة"، فإنه سيجد نفسه بلا موقع ولا مستقبل ويخسر أخلاقيا أكثر مما يخسر سياسيا. إن مصيره مرتبط بصموده حول الدستور والتفاوض على سلامته.
اللحظة التونسية تتسارع وتوشك أن تسفر عن وجه جديد دون الانقلاب، لكن الخلاف العميق بين مراكز القوة يوشك أن يفضى إلى وضع قلق آخر؛ سماته الاضطراب الاجتماعي وغياب موقف وطني يحمي سيادة البلد من السفارات، ويفتقر إلى حلول مالية سريعة إلا بمزيد من التداين، لكن لا مقرض يراهن على وضع مماثل.
رمضان يطرق الأبواب، ومصاريف الأسرة التونسية تتضاعف في الشهر الكريم في وقت تتأخر فيها الرواتب وترتفع مؤشرات البطالة.. صغار الفلاحين ينتظرون أمطار آخر الشتاء، فإذا أخلفت موعدها سيسبق الفلاحون جمهور الموظفين بلا رواتب إلى الشارع.
جملة أخيرة: المنقلب لا يطالع النشرات الجوية ولا النشرات السياسية، وفي آذار/ مارس موعد الرياح الحسوم.