يجري تحويل الثورة إلى قضية حقوقية تحت أنظار العالم الذي يُبدي انشغاله على الطريقة الفرنسية الأنيقة؛ السبّاقة دوما إلى تقديم دروس الحفاظ على حقوق الإنسان المعارض وإسناد النظام الذي يقمعه.
نحتفظ حتى الآن بحذرنا حول الأسماء المعتقلة ونهجها السياسي وخططها (وهو حق)، ولكن نكتب عن اعتقالات ذات طابع استباقي، إذ نجد نواة اتفاقات سياسية للمعارضة حول حدود دنيا أزعجت الانقلاب ومن يحميه، فشرع ينظف الطريق من احتمالات اتفاقات على أمور أكثر جدية يراها تزعزع آماله في البقاء.
نرد على سؤال قبل أن يطرحه أنصار الانقلاب. اعتقال معارضي الانقلاب هو اعتقال للثورة، نعم وبقوة، ويتم تحويلها إلى قضية مساجين، ويجري المحامون الشرفاء من أجل تخفيف معاناتهم. كيف نقع في هذا الخلط المنهجي بين المعارضة غير الموحدة وبين الثورة؟ سنجيب من يحتفظ بعقله بعد.
المعارضة أزعجت الانقلاب
خطان متناقضان سارا في طريقين متعاكسين: الانقلاب يضعف والمعارضة تستقوي، وبقدر ضعف الانقلاب كانت المعارضة تزداد قوة وشرعية. ضعف الانقلاب اتضحت أسبابه، لقد فشل في كل ما خططه وزادت انتخاباته في الإجهاز على شرعيته، وسيكون برلمانه مسخرة للتونسيين المبدعين في تحويل أفعال الانقلاب وأقوال المنقلب إلى نوادر يومية.
هناك نقاش فات زمنه: لماذا لم تتفق المعارضة منذ اليوم الأول على أنه انقلاب؟ لقد تشتت شمل السياسيين وطمع كثير منهم في غنيمة صغيرة، لكن الوعي المتأخر أفضل من الغي الدائم. ربما نعود بالتحليل في وقت لاحق لأسباب الفرقة والاتفاقات المتأخرة (وقد أشرنا في مواضع كثيرة إلى عمق الروح الاستئصالية عند فئات معارضة)، لكن مجرد ظهور علامات على اتفاقات حول المستقبل انكشف رعب الانقلاب، وهذا هو السر الكامن وراء الاعتقالات التي تبدو من الخارج كأن لا رابط بينها.
نحن من الداخل نرى خلافاتها الأصلية ونرى اتفاقها (الجنيني) أخيرا على أن الانقلاب انقلاب، وأن أفعاله تدمر البلد، أما ما يكون بعده فنظن أنه لم يصل بعد مرحلة الاتفاق وقد يكون السجن مكان اجتماعات كبيرة وفاصلة في ذلك. ولكن في هذه المرحلة الأولى ظهر انزعاج الانقلاب وشرع ينظف الطريق مستدركا فشله، وقد عازته التهم الصلبة فهو يلفق ملفات مثيرة للسخرية، مثل تخريب الانقلاب باحتكار القهوة.
المعارضة تعود إلى موقف النهضة وجبهة الخلاص
لم أجد (حتى الآن) أي دليل على اتصالات أو تنسيق مواقف بين خيام التركي وحزب النهضة، فالتهم الموجهة للسيد البحيري (اعتقل في نفس الموجة) ليست هي نفسها الموجهة لمجموعة خيام، لكن جوهر موقف مجموعة خيام هو تسمية الانقلاب باسمه ونعت فعاله بالأفعال التدميرية والتخطيط لإنهائه، وهذا هو جوهر موقف النهضة منذ الساعات الأولى (لا نثق في المحقق ليثبت علاقة هؤلاء بجهة خارجية وإن كنا نستشعر اليد الفرنسية). إن الملفات مثيرة للسخرية.
هذا اللقاء السياسي (الميداني) وإن لم يتحول بعد إلى تنسيقية فاعلة إلا أنه اقترب كثيرا من موقف جبهة الخلاص أو قربها منه (بالحديث مع مكوناتها)، وفتح نوافذ اتصال بحيث لن تكون النهضة (رغم صمتها المؤقت) بعيدة، لذلك يسعى الانقلاب إلى كسر الجسور التي تبنى بين كل المواقف وتفريغ احتمالات اللقاء من كل زخم ميداني ممكن. فنهاية الاستئصال هي أيضا نهاية الانقلاب الذي عاش من الاستئصال وحرّض عليه، ويعمل على استدامته بكل قوة.
إن جوهر الاعتقالات وهدفها هو كسر هذه الجسور ومنع اللقاءات التي قد تنتج حركة في الشارع السياسي يدعمها شارع نهضوي تعرف النهضة كيف تملؤه بجمهور نشط وسريع الحركة.
الصورة تكتمل تقريبا: موقف سياسي غير استئصالي (أو هكذا يبدو) يعتمد على جمهور النهضة ويمكن فعلا أن يزعزع أركان الانقلاب. وجب الاستباق إذن وكسر الجسور، ولكن تجربة كبيرة في التاريخ تثبت أن الجسور تبنى في السجون بين معتقلي الرأي. السجن يُنضج الخطط، وهذه لن يبلغها ذكاء الانقلاب، إنه يحارب منسحبا فيما المعارضة تتقدم من سجونها. هل نفرط في التفاؤل؟
هل المعارضة تمثل خط الثورة؟
الانقلابيون يقرون بذلك بصمت. المعارضة تدور حول دستور 2014 وبعضها على استحياء لكنها لن تخرج من مربع الشرعية الدستورية. دستور 2014 ضد دستور الانقلاب، وإلا فشلت وعادت إلى نقطة الصفر، ثم يكون حديث مضن حول المستقبل. هذا مصير لن يفلت منه كل متنطع يحاول إعادة اكتشاف العجلة.
بناء الفعل السياسي للمستقبل حول دستور 2014 هو الحفاظ على مكسب الثورة الأهم ثم استعادته كأساس للشرعية (ولا نتوقعها طرقا ممهدة)، لكنه مصير محتوم يحدد الوطنية الصادقة من الانقلابية الغبية. ترسبات الخلافات القديمة وبعضها لم يبرأ من الاستئصال؛ ما تزال تشكل عوائق أمام اتفاقات الشجعان (فبعض الشجعان شجعان على الورق فقط ولسنا نتجنى ونعرفهم منذ خمسين سنة). لكن خط الثورة والشرعية واضح ولم يفقد ألقه، بل يزداد وضوحا.
بين سعي الانقلاب إلى تحويل الأمر إلى قضايا حقوقية على طريقة بن علي وجهازه الأمني وبين سعي المعارضة إلى بناء توافقات حول حدود دنيا، تمر تونس بمرحلة اضطرابات موجعة، فكل هذه القضايا (وهي بدايات ستتبعها اعتقالات أخرى) تؤجل النظر في القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تتراكم دون حل.
سيقتضي الظرف من الأطياف المعارضة المزيد من الوضوح والشجاعة والتخلي عن الاختصارات السياسية عبر صفقات قصيرة للنجاة الفردية، وسيقتضي أيضا وهذه نقطة مفصلية؛ إعلان الاعتماد على الحل الداخلي دون عقد أية آمال على دعم خارجي يتابع الوضع التونسي من مقاهي باريس ويُعرب عن قلقه. هل هو الرشد السياسي أخيرا؟ نكتب بتحفظ، فقبل خيبتنا من الانقلاب ما زالت آثار خيباتنا من النخب تؤرق ليلنا وتظلم يومنا.