أبدأ من الخبر العجيب: لبنانيون يمضون بالآلاف على عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي.. هذا خبر يجعل بشارة الخوري يتقلب في قبره، وربما أعاد تضمين هذا القهر التاريخي في قصيد الهوى والشباب لينوح بها عبد الوهاب في بلاد النيل. فالهوى والشباب ضاعا من يديه ومن يدي كل شاعر مجد الوطن.
أفزع إلى تأويل هذه العريضة بأنها ردة فعل عاطفية غاضبة على المصيبة التي حلت ببيروت خاصة وبلبنان عامة، وهي من جنس اتهام النخب الحاكمة بالفشل. ولكن بالنظر إلى وجود تعبيرات أخرى ممكنة ومتاحة عن الغضب الشعبي في المصائب والكوارث والأزمات، فإني أذهب إلى قراءة أخرى، ولو تيسر لي معرفة الممضين عليها لوجدت أنهم ليسوا حالة شاذة في الأقطار العربية. إني أراهم، دون معرفة الأسماء والصفات والمواقع الاجتماعية التي يحتلونها في لبنان، جزءا من نخبة عربية كسولة ومحافظة ورافضة لكل تغيير، رغم أنها في المعلن من أفكارها وسلوكها تصنف نفسها نخب تقدمية وثورية ومجددة. إني أراهم عينة من نخبة مريضة صنعتها دول مريضة.
دولة الريع خلقت نخبة محافظة
في البدء كانت الدول العربية مشاريع دول اجتماعية، فقد كشف الاستقلال عن الاحتلال المباشر أبنية اجتماعية هشة، وشعوبا فقيرة وجاهلة ومريضة بكل أمراض الدهر. وكان الفاعل الوحيد القادر على النهوض بهذه الشعوب دولة اجتماعية، في سياق التحديث الاقتصادي والاجتماعي. وكانت أطروحة التحديث المهيمنة هي التحديث على النمط الغربي، والفرنسي منه بالتحديد (خاصة ما كان من البلدان تحت الاحتلال الفرنسي). واحتاجت الدولة إلى جهاز دعاية فخلقت نخبتها الخاصة، وأوكلت إليها مهمة تحديث المجتمع عبر التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة.
مع استقرار المجتمعات ملكت هذه النخبة حق التقرير في مصير الشعوب في أدق تفاصيل اليومي المعيشي، وتملكت مواقع الفعل والفائدة (أو الغنيمة)، وتملكت بالتالي حق توجيه الناس نحو ما تريد وتنفيرهم مما لا ترغب. وصار جهدها ونشاطها أشبه بعمل إكلريوس ديني يملك حقيقة اللحظة والمستقبل، بما جعل كل طموح للتغيير يتحول إلى كفر.
مارست هذه النخب دورا مزدوجا فهي تتحدث إلى الشعب بضرورة الثورة والتغيير، ولكنها تبرر للأنظمة كل فعل معاد للتغيير، وتقبض بكل أريحية من ممارسة هذا الدور العجيب. وجدت الأنظمة في ذلك خلاصها، فالخطاب الثوري يقوم بدور تنفيس الأحقاد والخيبات من فشل التحديث الاقتصادي والاجتماعي، ولكن التبرير النخبوي كان كفيلا بتشريع وجود الأنظمة الفاسدة واستمرار فعلها التخريبي.
لقد كانت أعطيات الدولة للنخب وفيرة، فجعلت منها نخبا ريعية تتلمظ غنائم الدولة، وتكسل عن كل فعل تغييري، وتمعن في رومانسية ثورية لا يحاسبها عليها أحد.
الربيع العربي فضح النخب قبل الأنظمة
أوشك أن أضع مفردة الربيع العربي في باب المجاز الأدبي، فكمُّ الفشل في إدارة التغيير يوشك أن يحطم كل الآمال التي علقت عليه. لقد كان هذا الربيع حركة تغيير عميقة صعدت من الباطن الشعبي بدون أدنى دور للنخب التي نظرت للثورات وبررت للسلطة، وفي لحظة تعميق التغيير بوسائل السياسة قفزت النخب لقطع الطريق، فكان الانقلاب المصري، وكانت عودة منظومة ابن علي للحكم في تونس، وكان إجهاض الثورة في السودان وفي لبنان نفسه.
نذر التغيير كانت تستهدف نخب التبرير التي شعرت بخطر فقدان مراكزها ومنافعها وأداورها؛ التي عاشت منها وباعت منها أوهام الثورة لشعوب لم تخرج من الأمية السياسية ومن الفقر طيلة زمن هيمنة هذه النخبة على صناعة الوعي.
وإذ أحاول قراءة عريضة المطالبة بعودة الاحتلال (الانتداب) إلى لبنان، فإني أقارن ولا أجد فرقا بين وقائع متشابهة، مثل مطالبة مثقفة تونسية متخصصة في حقوق الإنسان لوزير خارجية فرنسا بالقدوم إلى تونس وحماية الديمقراطية من "الإخوانجية"، ومثل سفر نواب المجلس التأسيسي إلى البرلمان الأوروبي لمطالبته بحل البرلمان التونسي الواقع من سيطرة "الإخوانجية"، ومثل نكران رئيس دولة تونس المنتخب بفضل الربيع العربي تاريخ الاحتلال الفرنسي لتونس؛ والاكتفاء بتوصيفه قانونيا كمرحلة حماية، قبل أن يقبل كتفي الرئيس الفرنسي في خضوع مذل.
إنه نفس التوجه النخبوي القائم على رفض التغيير، والمفارقة أن كل ذلك تم تحت شعارات الثورة والتغيير. إن كم التناقض الذي مارسته النخب العربية بعد الربيع العربي يكشف أن لا فرق بينها وبين كل تاجر متنفذ موشك على فقدان موقعه وغنيمته. فالتغيير يأتي بنخب جديدة ويقطع رزق المتنفذين، ولو كانوا تنفذوا بخطاب الثورة. وفي الحالة اللبنانية وصلت ردة الفعل إلى حالة من النكوص إلى ما قبل الاستقلال. إنها تقدمية عربية ذات مشروع تحديثي تعيد عجلة التاريخ قرنا إلى الوراء.
نخب خائنة بصراحة
هذا حكم أخلاقي متعسف على كثيرين، ولكن في الواقع عندما بحث المواطن العربي المجهول عن النخب لقيادة الثورة والتغيير وجدهم يطالبون بعودة الاستعمار أو ينقلبون بالعسكر على الديمقراطية.
يسعفنا الزمن بمقارنة "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ".. هذا هو رأي غرامشي في المثقف المحافظ أو الرجعي أو النكوصي.
نظريا وحسب ما كتبته هذه النخب عبر تاريخها الطويل في التنظير، فإن ردة الفعل الوحيدة الأخلاقية والثورية بعد كارثة بيروت هي احتلال الشارع ودفع ثمن إسقاط النظام الطائفي الذي خرب لبنان، وهو الموقف الذي انتظره شعب مصر من نخبته فوجدها تبرر للعسكر، وهو ما انتظره شعب تونس من نخبه فوجدها تقبل كتف الرئيس الفرنسي وتنكر جهاد آبائها وأجدادها.
لقد بدا لهم أن عودة الاحتلال أيسر وأكثر جدوى من مقارعة حكامها في الشارع ودفع ثمن الدم والحرية. إنها طبيعة النخبة التي صنعتها الدولة الوطنية ورعتها وسمّنتها، حتى وصلت إلى إنكار الدولة، ونعتقد أنها لم تعترف بوجود شعب أبدا رغم أنها كتبت له كراسات ثورية.
يمكنها في انتظار عودة الانتداب أو الحماية أن تبيع للشعب الطيب الغبي فيروز "بي راح.. راح العسكر بي علاّ بي عمّر حارب وانتصر في عنجر"، ولن تنتبه إلى أن أجيال لبنان وتونس ومصر وفلسطين وسوريا والجزائر غنت دوما مع بشارة الخوري الهوى والشباب والأمل المنشود.. ضاعت جميعها من يدي.