حراك طبيعي على الساحة السياسية التونسية قبل الانتخابات القادمة ضمن تجربة ديمقراطية وليدة لم تملك بعد كل عناصر الاستقرار وشروطه، وتحكمها ضغوطات دولية ذات طابع سياسي وثقافي وأخرى ذات طابع سياسي.
صيف ساخن في المشهد السياسي التونسي سيكون له ما بعده. ملامحه الظاهرة كثيرة سنركز على أربع منها هي:
أولا: الغنوشي يقود النهضة إلى بر الأمان السياسي
لم يكن خافيا على أحد أن حزب النهضة ممنوع من الحكم بكل الوسائل. فالسند الشعبي لم يحمه أمام نخبة ترفضه في الداخل، وأمام وضع دولي يعترض على وجوده.
لكن الغنوشي أتقن المناورة في الفترة السابقة. ونراه يعود إلى الحكم من موقع الحزب الأول أو على الأقل الحزب الذي لا يعقد أمر إلا به ومعه.
وهناك عناصر كثيرة ساهمت في هذه العودة. بعضها يتعلق بمواصلة الرفض غير المبرر سياسياً لوجود الإسلاميين في الحكم. فقد تبين أنه رفض غريزي لا سياسي؛ فنخبة بن علي ألفت تونس بدون إسلاميين، فكأن وجودهم فوق الأرض يفسد عليهم متعتهم بالمكان.
آلاف من تهم الفساد قيلت في قيادات حزب النهضة، ولكن لا أحد ذهب إلى محكمة، وأثبت جرماً عليهم. والجمهور العريض انتظر محاكمات لم تحصل، فأيقن بكذب من يقول بذلك خاصة وأن الفساد يثبت دوماً على الجهة الأخرى أي جهة فلول ابن علي. الرفض الغريزي انقلب على أصحابه، ونال الحزب ثواب الصبر.
يحسب لحزب النهضة أنه ساهم في الحفاظ على وضع سياسي مستقر في البلاد رغم وضعها الاقتصادي المتردي يضمن لها شروط الاستئناف الديمقراطي ولو من الصفر. هذا الاستقرار حافظ على حياة سياسية سليمة بسقوف حرية عالية جداً. وهو الضمانة للتقدم نحو انتخابات تخرج البلاد -ربما- من أزماتها الحالية.
عمل حزب النهضة بأناة على تغيير صورة الحزب في الخارج، وجر أعدائه إلى ملاقاته والجلوس معه، والحديث إليه.
وكانت زيارة الغنوشي إلى باريس تتويج لمسار من الصبر والمحاورة. لقد تغير الموقف الفرنسي في الظاهر على الأقل من الحزب، ومن احتمال العمل معه لضمان مصالح فرنسا في تونس، وعدم التأثير على وضعها السياسي الداخلي كما جرى الأمر منذ الثورة.
لا نعتقد بأن الحزب سيقود معركة استقلال ثانية (يطلب بها التونسيون) فهو أعجز عن ذلك، ولا نرى حديث الاستقلال على جدول أعماله.
ولكن في مرحلة التمكين للحزب في الداخل والخارج يخرج الحزب غانماً. ولذلك سمعنا لهجة مختلفة من الغنوشي بعد عودته من فرنسا حيث وجه تحذيراً إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد من الترشح للرئاسة وإلا فإن بقاءه في الحكومة سيكون على المحك.
لقد انتقل الحزب من وضع الراضي بالقليل إلى وضع المحدد للكل؛ وهذا في جوهره انتقال من وضع الدفاع عن الوجود إلى وضع طلب السلطة بقوة الصندوق. وهو ما يعتبر الترجمة الفعلية لما قاله الغنوشي للرئيس السبسي بعد أن أسقط وثيقة قرطاج 2 (حزيران 2018) "انتهى عصر تنازلات النهضة".
ثانيا: المنظومة في موت سريري
يتسمى بعض المنظومة بـ"تحيا تونس" ومع ذلك فهي لا تحيا حيث أن المنظومة في وضع التلاشي السياسي؛ فلها حتى الآن ثلاث رؤوس متصارعة على ميراث التجمع ورجالات بن علي. رأس نيوليبرالي متفتح ويزعم بسعيه إلى تشبيب السياسة يقوده الشاهد؛ ورأس يقف مع رئيس الدولة الذي يخرج من الباب الصغير بعد أن فضّل الاعتماد على ابنه في القيادة، فخذله بغبائه وقلة حيلته؛ ورأس فرقة بن علي الأمنية الاستئصالية المتخفي خلف صورة بورقيبة ويحرض بخلفية جهوية.
الرؤوس الثلاثة تتصارع على غنائم الحكم، ولا تقدم أية خريطة طريق مختلفة عن سياسات بن علي التي اختبرت ففشلت.
فضلا عن ذلك فإن ثقلها الحقيقي ليس بمن انضم لهم من شباب جديد بلا تجربة سياسية، بل برجالات بن علي من أصحاب المال والأعمال الذين لم يثقوا ولن يثقوا في من وقف يوما مع الثورة ودافع عن التغيير. لذلك تبقى المنظومة في جوهرها محافظة ومعادية للثورة. وهي على خلاف المعارضة تصنف النهضة في قوى التغيير، وتنافقها لضعف أمامها، لا لتسليمها بروح الديمقراطية.
ثالثاً: تفكك اليسار ودخوله مرحلة التيه
إحدى وجوه الحراك السياسي في هذا الصيف هي تفكك الجبهة الشعبية اليسارية. ودخولها في صراعات بينية حول الترشح للبرلمان. لا أحد من مكونات الجبهة قادر على الفوز بمقعد بمفرده لذلك فإنها لن تفوز إلا بمعجزات كثيرة بمقعد المعارضة في البرلمان القادم. بل إن خلافتها ستمتد إلى داخل النقابة بما يؤذن بمعارك جديدة، وتغيير تحالفات سينتصر شق نقابي غير يساري. وفقدان اليسار لسلطته على النقابة سيكون بمثابة إعلان نهايته كقيادة احتجاج.
المرحلة ما بين 2019-2024 ستكون مرحلة صعبة عليه؛ فإما أن يتجدد اليسار فكرياً، وهو احتمال ضعيف تعجز دونه القيادات الحالية أو أن يتلاشى سياسيا إلى فقرة في كتاب التاريخ تأتي خلف فعل كان.
في الأثناء يتحرك حزب جديد نحو موقع المعارضة هو حزب التيار الديمقراطي (أو حزب الزوجين عبو). منحته الانتخابات البلدية موقعاً مغرياً وربما مثيراً للغرور. ونستشعر اهتمام القوى الخارجية به كقيادة معارضة بعد فقدان الثقة في جبهة اليسار. وربما لهذا السبب زاره السفير الفرنسي الذي يرتب الأوضاع في الداخل برضا الجميع.
يصنف الحزب نفسه في الوسط الاجتماعي. لكن شقه اليساري وهو الغالب عليه يدفعه إلى معركة الهوية، ويجر الحزب إلى الاصطدام مع النهضة. وقد رفض التنسيق معها في المجالس البلدية مفضلاً التحالف مع مكونات المنظومة في بعض المواقع.
موقفه هذا من النهضة سيأتيه بفلول الجبهة اليسارية التي عاشت دوماً من هذه الحرب بما سيجذبه أكثر نحو يسار كلاسيكي يقلد الجبهة دون اسمها، وبما يؤهله لقيادة المعارضة التي ستستعد بالدرجة الأولى لمعارضة النهضة سواء كانت في موقع الحزب الأول أو الثاني. واعتقد أن السفير الفرنسي قد أعطى أوامره.
رابعاً: صيف انتخابي بامتياز
لا أفضل رؤية المشهد من زاوية الرضا بالقليل عبر المقارنة مع الوضع الليبي كغياب حفتر تونسي. أفضل أن نتجاوز في تونس ديمقراطية الحد الأدنى، والذهاب مباشرة إلى عملية تنموية في العمق تخرج البلاد من أزمتها التي تردت إليها نتيجة للصراعات السياسية الأيديولوجية من ناحية، ونتيجة لولاءات خارجية من ناحية أخرى.
مهما كانت حرارة الصيف الانتخابي فإن صراعات الطبقة السياسية التونسية لن تنتهي ولن تخرج البلد من الأزمة بل ستمد في أنفاسها لعشرية أخرى، لأن كثير من مكونات الطبقة السياسية يعيش من الفساد المالي والإداري المستشري في البلد.
ولا مصلحة لهذه النخبة في مقاومة الفساد بجدية. لذلك فإن كل ما ذكرناه أعلاه من حراك سياسي لن يمس جوهر العملية الاقتصادية، ولن يقاوم التخريب المنهجي في مؤسسات الدولة، وفي الإدارة وفي التعليم وفي الصحة.
وهذه هي المعارك الحقيقة والتي لا نرى لها نداً سياسياً يتصدى لها بالعلاج الجذري. إن هذه القضايا حاضرة في خطاب الجميع حتى الفاسدين يعلنون مقاومة الفساد. لذلك علينا تحمل حرارة صيف تونس وحرارة حماس النخبة السياسية الرومانسي قبل الانتخابات والفاسد بعدها.