كان الذي أطلق حرب الطوفان متيقنًا من نصره، وقد ربح البيع وأثلج صدور قوم مؤمنين، والمؤمنون به الخائفون عليه وإن شاركوا بقلوبهم ولم تصل أيديهم إلى نصرته إلا بالدعاء تيقنوا من النصر. بعد اليوم المائة من الحرب التدميرية التي دفع الغزاويون ثمنها وحدهم من لحم أطفالهم ونسائهم طفت على السطح مناورات السياسة الفاسدة لقطف نتيجة المعركة لغير صالح غزة وفلسطين.
لا شيء يدل في هذه المناورات أن المناورين أخذوا بعين الاعتبار الثمن المدفوع، بل شرعوا يعرضون حلولهم القديمة وفي مقدمتها التطبيع مع كيان لم يعد قائمًا إلا في خيالاتهم العدوانية والخيانية. التطبيع مقابل منح غزة بقية حياة تحت الاحتلال.
ماذا في خيالهم؟
نجمع خيوط المؤامرة الجديدة القديمة في الحقيقة، وهي فيما يبدو عروض صادرة عن الأنظمة العربية التي خذلت غزة وفي مقدمتها النظام السعودي، فيقدم عرض تطبيع كامل مقابل الإبقاء على غزة في مكانها، بكل آلامها وخسائرها. وعرض التطبيع تلقفه الرئيس الأمريكي ليبني عليه مقترحه بالحل الذي يرضي الكيان، أي حالة سلام شاملة للكيان مع جيرانه، كما لو أنه ربح الحرب وهو في وضع فرض شروط المنتصر، وصرنا نرى المقترحات تتهاطل على الغزاوي كأنه مهزوم.
خيال القوم من حول غزة لم يتزحزح عن غروره الجاهل الذي لم يقدر الثمن المدفوع ولا العزيمة التي قادت المعركة ولا طموح الذين خاضوها إلى الحرية والاستقلال والتحرير، لذلك يفاوضون أو يقترحون كما لو أن معركة لم تقع ولم يُدفع فيها 30 ألف شهيد غير الجرحى والمعوقين.
هذه الاستهانة التي تظهر في خطاب الأمريكي والغربي عامة بالأرواح والآلام لم تتعلم الدرس ولا يبدو أنها ترغب في التعلم، وهي تستهين وهذا من طبعها بالملايين الصادقين من شعوبها الذي خرجوا في أرجاء الأرض متعاطفين مع الضحايا ويعطون الحق لأهله.
غرور القوة المطلقة لم ينكسر من حول غزة رغم دلائل الهزيمة التي أصابت الكيان، لذلك نتوقع أن مثل هذه المفاوضات لن تصل إلى حل عادل مبني على النصر الذي حصل أو بالأحرى على انكسار الكيان الذي تهشمت سمعته وجيشه وقدره على الردع والتخويف الذي حكم به المنطقة ثلاثة أرباع القرن الماضي.
كما أن روح الهزيمة التي تحكم الأنظمة العربية المحيطة بفلسطين خاصة لم تفهم ما جرى أو لا ترغب في فهمه، لقد فقدت هذه الأنظمة دورها وقيمتها وموقعها في أي تفاوض بعد الطوفان، وموقعها الآن هو موقع من لا قيمة له في معادلة مستقبلية يحكمها المنتصر بدمه.
هناك نصر حاصل على الأرض
هذا هو المعطى الجديد، حرب الطوفان لم تكن معركة صغيرة في سياق معتاد على الهزيمة، هناك تغيير حقيقي حصل، الفلسطيني المقهور خاض حربًا شرسةً بعد استعداد مضن ومكلف، وعلى أساس هذا النصر يتم التفاوض على المستقبل، ومطالب الفلسطيني واضحة: أرضه ومقدساته ومستقبل أطفاله في سلام دائم على أرضه.
هناك كيان غاصب قاهر ومسلح ومدعوم بأقوى ترسانات الأرض العسكرية، لكنه مهزوم وخاسر وعليه التفاوض من موقع المهزوم، وإن كان اندحاره من المنطقة مؤجلًا إلى معارك أخرى نراها قادمة ولا نتوقع زمنها بدقة.
ونظن يقينًا أن حرب الطوفان سيكون لها فعل مربعات الدومينو إذا سقطت أولاها فبنيان الكيان آخذ في الانهيار على نفسه ولن نستغرب حربًا أهلية داخلية تودي به، فقد نقلت غزة الحرب إلى داخله وهذه من الانتصارات التي تأتي وحدها في تتابع عجيب.
إن مناورات السياسة التي تتجاهل هذا النصر لن تنتج الحل العادل الذي يوقف الحرب ويخلق حالة السلام وأول المعنيين بالانطلاق من هذا النصر هو الحزام العربي المتخاذل، لقد منحته غزة ورقة تفاوضية قوية يمكنه الاستفادة منها في كل قطر، لتخرج الشعوب (وحكامها) من حالة الإذلال نقول هذا ونعيد التأكيد أن هذه احتمالات نظرية لن تستوعبها الأنظمة التي ولدت وعاشت من المتاجرة بقضية الفلسطيني قبل أن يتولى أمره بيده في غزة الطوفان، لقد خففت غزة على الأنظمة ثقل الكيان المتغطرس الذي يبتزها بشكل دائم، لكن.
النصر لأهله وللخائن الحجر
بدء التفاوض على الحل السياسي يُقرأ في هذه اللحظة كسعي لإنهاء معركة هشمت الكيان بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لعله يواصل بعضًا من دوره القديم كقاعدة عسكرية متقدمة للأمريكي خاصة وللغربي عامة (ولا نظن البتة أنه قادر على العودة إلى ما كان عليه قبل حرب الطوفان).
كما يقرأ أو يجب أن يقرأ من الشعوب العربية لا من الأنظمة كمقدمة لمعركة تحرير شامل من نير الأنظمة العميلة المتسلطة عليها بدعم من الكيان نفسه وإن لم تكن دول مواجهة مباشرة (بلدان شمال إفريقيا مثالًا).
إن الشعوب العربية التي لم تفلح في إسناد المعركة في حينها ولا تزال تراقب بألم أو بلا مبالاة ما يجري، معنية بقطف نتيجة من هذا النصر في بلدانها قبل أن يقطفها خط التطبيع العربي بتوفير مخارج تطبيعية للكيان يرمم بها كيانه المهزوم.
قطف الثمرة عربيًا هو العودة إلى خط الربيع العربي المنقلب عليه وتحريك الشوارع في اتجاه استعادة الحريات السياسية والدفع إلى استعادة الديمقراطية. هل يكون هذا ممكنًا؟
إنه الأمر المأمول وإن كنا شاهدنا بوجيعة كبيرة الصمت والخذلان وقت المعركة ونحن بين اليأس والرجاء، لقد كانت المشاركة في المعركة ممكنة بقليل من ثمن، الصمت كان أقوى لكن الرجاء لن ينقطع في أن يستثمر المؤمنون بغزة وبالحق في التحرير في نصر غزة ولو بعد حين ليستعيد الشارع العربي قدرته على الفعل، فإذا كان المهزوم يسارع إلى قطف النتيجة وهو مهزوم فأولى وأحرى بالمنتصر أن يستبق، فالنصر نصره.
ونختم بالأمل في أن الذي انتصر على الأرض ودفع من لحم أطفاله قادر على أن يقطف نتيجة نصره لنفسه قبل أن يستعيد خط التطبيع العربي وقاحته ليفاوض على دمه.