بلغت الأزمة السياسية في تونس ذروة غير مسبوقة، فردود الأفعال لا تزال تتفاعل حول رفض الرئيس قيس سعيد إمضاء مشروع القانون المتعلق بانتخاب المحكمة الدستورية وذهابه إلى تأويل دستوري يمنع انتخابها نهائياً.
وقد ضاعف أزمة الحكومة عامداً بإهانة قرار اللجنة العلمية على رؤوس الأشهاد، وهي الجهة الحكم المخوَّل إليها التصدي لوباء كورونا المستشري في موجة ثالثة تبدو أشد وأخطر.
هذه القطيعة تؤشر إلى أن العمل بين رؤوس السلطة الثلاثة قد انعدم، والوضح يتجه إلى مخرج وحيد، إسقاط نتائج انتخابات 2019 البرلمانية والاتجاه إلى انتخابات سابقة لأوانها، علماً أنه الجهة الوحيدة المخوَّل إليها إمضاء نصّ الدعوة إلى انتخابات مهما كان أجلها.
بدأ الحديث عن انتخابات سابقة لأوانها
صدرت أول دعوة لانتخابات سابقة لأوانها عن الرئيس السابق المرزوقي، وتَبيَّن أن الفكرة قريبة من كثير من المحليين الذين توصلوا إلى قناعة بسيطة وواضحة، أن التفاهم بين رؤوس السلطة لم يعد ممكناً. لقد كان مشهد تعليم الحكومة واجبها السياسي في احتفالية عيد الشهداء حاسماً في كشفه عن رغبة الرئيس في إهانة الحكومة وإظهارها بمظهر القاصر.
وللتذكير أمر الرئيس بشكل حاسم يوم 8 يناير/كانون الثاني 2021 في ترؤُّسه لمجلس وزاري يتعلق بطرق التصدي للوباء (في لحظة ظن الناس فيها أن تأثير الوباء قد تَقلَّص)، بأن تلتزم الحكومة رأي العلماء والخبراء الطبيين، وشرح بطريقته التعليمية أن القرار العلمي مقدَّم على القرار السياسي، ليعود في 9 إبريل/نيسان 2021 إلى اعتبار القرار العلمي رأياً استشارياً غير مُلزِم للحكومة التي عليها المبادرة بالقرار السياسي، بما أظهر الحكومة بمظهر الحكومة غير الشعبية، بل المعادية لفئات الفقراء والعمال المحتاجين إلى العمل رغم ضرورة تطبيق قواعد الحجر الصحي.
تراجعت الحكومة وعدلت ترتيب منع الجولان في شهر رمضان. ويظنّ الرئيس أنه اكتسب شعبية بالضغط على الحكومة. ونتوقع أنّ تعكُّر الوضع الوبائي سيقع على كاهل الحكومة، فهي المسؤولة عن العلاج، بينما الرئيس في موقع المتفرج.
لم يعُد الوضع السياسي الذي يسير بهذه الطريقة الخلافية والكيدية قابلاً للعلاج إلا بالخروج منه عبر إسقاط نتائج انتخابات 2019. ولكن هل يحتمل البلد وهو في وضع وبائي ويعيش على حافة الإفلاس الذهاب إلى انتخابات مكلفة صحياً ومالياً بلا تغيير للقانون الانتخابي الذي رهن المسار الديمقراطي إلى قانون أكبر البقايا.
تغيُّر التحالفات والموازين بعد 2019
لقد تغير المشهد السياسي في العمق وتقدمت الفاشية كثيراً بعد ترذيلها برلماناً يسيطر عليه حزب النهضة ويوجّهه، وانكشف وجه عديد من الثوريين عن أجندة استئصالية قاصرة دون كل مشروع لدفع التجربة الديمقراطية نحو مخارج بنَّاءة.
لم يبقَ في صف قيس سعيد سوى جمهور الاستئصاليين وهم يستديمون معركة لا نرى لها من نهاية، ولو كانت نتيجتها الوحيدة هي التضحية بالديمقراطية وبكل مكاسب الثورة التي دُفع فيها دم غالٍ.
لم نعُد في حيرة السؤال: ماذا يريد الرئيس؟ نحن على يقين أنه قد جُرّ إلى معركة الاستئصال السياسي للإسلاميين. لم نستشفّ هذا في برنامجه السياسي قبل التصويت له. والحقيقة أنه لم يعلن عن برنامج سياسي سوى كلمة واحدة رجّحت كفته، هي إعلانه الصريح معاداة التطبيع مع الصهاينة.
لكن بعد عام ونصف من تصعيده كشف الرجل عجزه وقصور فكره وفقدانه كل برنامج سياسي ينتمي إلى الثورة ويطوّر مكاسبها. وقد انتهى بسرعة إلى تقية إخفاء لمعسكر الاستئصال السياسي (الأجندة القديمة لابن علي ويساره الفرنسي والتحق بهم بشكل غريب القوميون). الرئيس الاستئصالي اندمج في معركة بن علي الذي لم يعارضه يوماً، بل عمل في ركابه، ولم ندقّق قبل التصويت له.
يقف الرئيس الآن حجر عثرة في طريق تقدم مسار الانتقال الديمقراطي بقطع النظر عن فلاح الحكومة عن حلحلة الأوضاع الاقتصادية للخروج بتونس من أزمتها.
لقد خلق الأزمة الحالية متذرعاً بمقاومة الفساد، ولكن الناس -حتى المواطن البسيط- تعرف حلفاءه الحاليين، إنهم رعاة الفساد في زمن بن علي والمبررون له طوال ربع قرن مقابل خدمته معركتهم الاستئصالية.
لقد أعادونا إليها بعد أن ظننَّا قرب الخلاص منها، وخسرنا رهاننا على رئيس قادم من الوسط الشعبي المفقر. لقد سرقوا الرئيس، لكنه كان قابلاً للسرقة، فلم يكن شخصاً يملك أن يدافع عن أطروحة حكم ديمقراطي.
إن الرئيس من خلال غياب برنامجه السياسي إنما يدفع الوضع إلى أزمة لا مخرج منها إلا بالانتخابات، وقد بقي له الآن أن يرفض تعديل القانون الانتخابي كي لا يتغير المشهد الاستئصالي الذي يسنده. فإقرار العتبة الانتخابية سيقضي على أنصاره في البرلمان (الغريب في الأمر أن هذا القانون هو صياغة عدوه اللدود عياض بن عاشور الذي منعه من إكمال شهادة الدكتوراه لمعرفته بمستواه الحقيقي).
الانتخابات المخيفة
لا يرغب الكثير في الذهاب إلى الانتخابات قبل الأوان، لكن هذا الكثير لا يملك تنفيساً للأزمة القائمة، وهم يتمسكون بالرئيس كآخر حصن لمنع الانتقال الديمقراطي أن يصل إلى مداه، لكن المخارج كلها أُغلقَت أمام الحكومة وأمام الرئيس نفسه، فأُفُق التأزيم محدود، وإسقاط المؤسسات العاملة بالحدّ الأدنى ينقلب عليه قريباً.
إنه يدفع البلد إلى انفجار شعبي (في وجه الحكومة)، ولكنه سيكون أول ضحاياه، فلخصومه في البرلمان وفي الحكومة قوة لم يُحسِن تقديرها، وهنا عجزه وضعفه. إن الرجل يسيء قراءة الأوضاع، لهذا تَسرَّب الاستئصاليون إلى حوزته وأخسروه السند الشعبي الكبير الذي وصل به إلى سدة الرئاسة.
لقد وصل إلى الحكم بفضل الثورة، وقد خانها فهو يندحر، والاستئصاليون سيلحقون به فقد جرُّوه إلى معركة ليست معركته وليست معركة التونسيين.
متى تكون الانتخابات؟ هي الآن خيار لم يُحدَّد أنصاره، ولكن مخارج الأزمة انتهت وبقي أمام الناس أن يستعيدوا قوة الصندوق الحاسمة.