فرح أنصار أبو عبيدة واستبشروا بظهوره بعد غياب، لأن ظهوره يطمئنهم على المقاومة وثباتها في ميدانها، لكن أبعد من الفرح والتعاطف ألقى الناطق الرسمي حديث الثبات وهو ما نترجمه بالاستعداد لفترة أخرى طويلة من الحرب مع الكيان في غزة وما حولها.
ومع عودة المقاومة إلى شمال غزة وإطلاقها رشقات صاروخية في منعة من المكان، يمكننا تخيل وضع حرب استنزاف طويلة تجبر العدو على البقاء في ميدان معركة ضيع خطته وشتت حركته. وطول الحرب بلا نتيجة مما أعلنه في بدايتها، تضاعف خساراته لا العسكرية فحسب، بل السياسية والاقتصادية، فضلًا عن خساراته الأخلاقية أمام العالم وهو يستأسد بالطائرات النفاثة على الخدّج والرضع.
هل تقدر المقاومة على حرب استنزاف طويلة المدى؟ وهل تحتمل الحاضنة الشعبية الصابرة المزيد من الألم؟ نحاول تتبع هذه الفرضية لنفهم سر دعوة أبي عبيدة للثبات.
خمسة شهور مفتوحة
عندما أعلنت المقاومة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أنها قادرة على الصمود لأشهر طويلة، فسرنا قولها على الدعاية الحربية لترهيب العدو، لكن وهي تدخل الشهر الخامس بنفس النسق المرتفع من الضربات، عرفنا أنها تملك أن تواصل صمودها وتكبد عدوها خسارات لا يحتملها.
وتكشف المشاهد الميدانية التي تنقلها إلينا المقاومة فارق الشجاعة بين المقاتل المقاوم والجندي النظامي. لقد حيدت المقاومة بالشجاعة فارق التسليح وكشفت أن الجندي المعادي صيد سهل يمكن مواصلة قتله بسهولة. غني عن القول أن قيادته الجاهلة أعدت له ميدان موت بما خربته من مبان، فحولها المقاوم إلى كمائن ومتاريس.
الصيد السهل تجلى للعيان في الشهر الرابع حين صار حساب القتلى (أو المحيَّدين) برقمين كل 24 ساعة وهو نسق مرتفع جعل العدو يعوض المحترفين بالاحتياط، ما زاد في عدد قتلاه. في وضع مماثل فإن إطالة أمد الحرب وتنويع الضربات تخدم المقاوم على الأرض، وتبلبل رأي العدو، فلا هو انتصر وحسم ولا هو قادر على الخروج بلا نصر وهي هزيمة.
كأنني سمعت أبا عبيدة يقول في ظهوره عشية 16 فبراير/شباط أن طاولوهم وشدوهم داخل غزة ولا تسمحوا لهم بالهرب لنزيد من القتل في صفوفهم. وهذه مرحلة جديدة من الحرب تقتضي مباعدة الضربات على طريقة حروب الاستنزاف الطويلة الأمد ضد الجيوش النظامية الثقيلة الحركة.
كيف أمر الحاضنة الجائعة؟
ألا تزيد إطالة أمد الحرب في معاناة الحاضنة الشعبية للمقاومة المفقرة والجائعة والتي تمر بشتاء قاس وتستقبل شهر رمضان بجوعها؟ هل تتجاهل المقاومة معاناة حاضنتها الشعبية؟ نحتار في تفسير هذا الأمر ونحن نتابع معاناة السكان، لكننا نرى أن هذه المعاناة تتحول بالتدريج إلى معضلة إنسانية توقر ضمير العالم وتنقلب ضغطًا شعبيًا ودوليًا على من يغلق معبر رفح وهو المانع الحقيقي لإيصال المساعدات المتراكمة في انتظار العبور.
لقد تنصل العدو من أمر إغلاق معبر رفح وحمل مسؤوليته لحاكم مصر، فانكشف أمام العالم كشريك في حرب لا إنسانية يساهم فيها بدور لا يمكن الدفاع عنه، وطول أمد الحرب يزيد في توريطه في المعبر بثمن من معاناة الناس في غزة، لكن بثمن أكبر في مصر الشريك في القتل عوض الشريك في النجدة. هذا ثمن وجب أن يدفع في مصر حتى يتبين للناس من أمر بلادهم مما أغفلوه لكشف هذه الحقيقة ثمن غال تدفعه غزة وتدفعه خاصة حاضنة المقاومة الصابرة.
إن إطالة أمد الحرب وإن كان يكلف المزيد من معاناة الناس فإنه يستنزف أيضًا نظامي الطوق القريب (مصر والأردن) بالخصوص، ويعرضهما إلى ضغط شعبي يتعاظم ويفضح شرعيتهما المدعاة، فكل يوم إضافي من الحرب في غزة هو فضيحة لنظام السيسي ونظام الأردن، وهو وضع يتدرج إلى انفجار لا يمكن توقع قادحه.
نكتب من خارج غزة وهذا وضع يوقعنا في خطأ تقدير معاناة الناس، فكأننا نتحدث عن أبطال خارقين وليس عن بشر يجوعون ويتعرون، أو كأننا نطلب منهم أن يفضحوا أنظمة التطبيع ويسقطونها أمام شعوبها الصامتة، ومن هذه الزاوية نحن نقع فعلًا في محظور أخلاقي، لكن يقيننا أن الحاضنة عرفت أن ليس أرحم لها من مقاومتها التي تعمل على تغيير وضعها بحيث لا يتسلط عليها عدو أو يتفضل عليها منافق.
ونحن نفسر الصمود الجماعي وتحمل الكلفة في الأرواح وفي الأبدان بهذا اليقين أن ليس للحاضنة إلا مقاومتها وهو التحام قوي نعتقد إن إطالة أمد الحرب لن يزيده إلا قوة، لأن الفلسطيني يحسب لأول مرة عدد قتلى العدو بهذا الكم، وقد كان يكتفي برجم العدو بحجر ومقلاع ويتلقى رصاصة في الرأس، أما الآن فيمكنه أن يتمتع بجمع أشلاء الدبابات من غزة وهو انقلاب يستحق الصبر.
وقت مناسب لتوسيع الجبهة
هذا أمر لا يمكننا توقعه وإن كنا نرى جدواه. توسيع الجبهات الآن يستنزف العدو ومن يموّله ويفضح خاصة الخوف الأمريكي من توسيع رقعة المواجهة خارج غزة، ودون ادعاء خبرة حربية نقول إن خمسة شهور كشفت أن الكيان أضعف من أن يحارب على أكثر من جبهة، بل نذهب إلى حد القول إن الممول الأمريكي لهذه الحرب أضعف من أن يتحمل عملية استنزاف على أكثر من جبهة خاصة في سنة انتخابية تقتضي العودة إلى الناخب الأمريكي بأكثر من أخبار طلعات جوية وقصف صاروخي من بعيد، فالناخب وإن لحست ذاكرته يتذكر القصف السجادي على الأرض الأفغانية دون نتيجة تذكر، ونراها تطاول العدو حتى ينفجر وضعه الداخلي على نفسه.
في عام انتخابات أمريكية لا يمكن للرئيس بايدن أن يقدم نتائج نصر لناخبيه، ونرى صور أطفال غزة تطارده في الصندوق الانتخابي، وفي دولة الكيان نرى اختلافات سياسية تقدر مسار الحرب برؤى مختلفة ونراها تؤدي برئيس حكومة هارب من حقيقة عجزه وهارب أيضًا من فساده الداخلي.
وجميعهم هاربون من مواجهة حقيقة دولتهم أمام رأي عام عالمي وعى ويتحرك ضدهم ولم يهدأ منذ شهور خمس، كل هذه المعطيات يزداد وضوحها ويتعاظم أثرها بإطالة أمد الحرب في غزة وهذا هو تفسيرنا لمعنى الثبات في خطاب أبي عبيدة.