القلوب أسيانة والعقول مشتتة خلف التفاصيل اليومية التي ينتجها الانقلاب في تونس، ويتراكم فوق الأسى المحلي أسى الأمة الموبوءة بعسكر فاسد يستعمل بندقيته في صدور شعبه.
فبعد أن فتح الربيع العربي حدود غزة المحاصرة لشعوب العرب المتعطشة للقدس ورباطها، عدنا إلى البحث عن ضمان الحدود الدنيا للحديث حول فلسطين. وما فلسطين إلا مهج ملهوفة على حرية بلا حدود في أوطان قادرة، لكن رغم الأسى والمرارة فإننا لا يمكن إلا أن نعلن الفرح بخلاص قريب، فالفرز بين الأحرار والعبيد يجري بسرعة لم نتوقعها. من تونس إلى السودان مرورا بمصر؛ نشاهد الفرز الديمقراطي يغربل العبيد فيسقطون من غربال الديمقراطية ويسمو الديمقراطيون إلى طريق الجلجلة، حيث لن ينتهوا فوق صليب خشبي، بل في بحور الحرية.. هنا والآن يفرز ربيع الحرية أعداءه.. هنا تزرع فسائل المستقبل.
الحداثيون التقدميون محترفو الانقلابات
لم نستغرب بالمرة انحياز اليسار المصري بكل أسمائه ومفكريه الأعلام، ومنهم كثير من أهل الأدب (شعرا ورواية) الذين أدمنا قراءة نصوصهم، فقد كنا نلتقط الروح الإقصائية في ثنايا نصوصهم، ولم نجد غرابة في أن يقف القوميون بكل تنويعاتهم الحزبية في صف العسكر المنقلب على تجربة دمقراطية هشة تحبو في سنتها الأولى، ولا تفلح في إحداث اختراقات في مجتمع حكمه العسكر منذ أكثر من قرن.
لم نؤمن يوما بأن شخصا تطبّع بروح العسكر الانقلابي يمكن أن يؤمن بالديمقراطية، لكن بعض الشذوذ السلوكي الذي ظهر لنا في قبول قوميي تونس باللعبة الديمقراطية أوشك أن يفسد يقيننا، حتى انقلب قيس سعيد على المسار الديمقراطي فعاد القوميون لسيرتهم الأولى وساندوا الانقلاب، فحصل الفرز والتصحيح الذي نريد. لا يمكن السير في طريق الديمقراطية مع قومي شوفيني، وعلينا أن نحمد الله أن الاختبار قد حصل بسرعة قياسية، فخرج القومي العربي في تونس من خريطة الديمقراطية.. هذا وجه من وجوه الفرز، لقد سقط في مصر وفي تونس، ومنذ يومين سقط في السودان.
وسقط اليسار دعيّ الحداثة أيضا، فبعد انحياز مطلق لانقلاب السيسي وجدنا اليسار التونسي يقف مع كل حركة انقلابية مرتدة عن ربيع الحريات، فشكل طابورا لحفتر، انقلابي ليبيا، وقفز إلى ثورة السودان فألّف مع العسكر حكما انتقاليا معاديا لموجة الحرية التي وصلت السودان وأسقطت البشير (بدعوى أنه رجل الإخوان). لكن روح العسكر الانقلابية قدمت لنا خدمة جليلة، لقد أخرج اليسار الانقلابي من حماه وركنه على جنب.
لقد بلغ الحقد الاستئصالي باليسار التونسي خاصة (وهو الذي نعرف أعلامه وأسماءه) أن لحس كل قوله حول الرجعية العربية والذي روجه طيلة أكثر من نصف قرن، فصار منشار آل سعود عند اليسار العربي التقدمي الحداثي نظاما ديمقراطيا يسند مواقع اليسار العربي في السلطة التي يطمع في استعادتها من الثورة العربية. بواسطة قيس الانقلابي نحن نتمتع بالفرز الديمقراطي، ويمكننا أن نشرب الأنخاب، فالفرز جار بسرعة فوق تاريخية.
الصورة الآن
واضحة كشمس آب/ أغسطس.. اليسار العربي بكل أعلامه والقوميون العرب التقدميون بكل عناوينهم؛ واقفون بحزم ضد موجة الحرية التي تجتاح الوطن العربي، وقد خيّرتهم الشعوب بين الحرية والقهر فاختاروا صف القهر بواسطة الدبابة ضد شعوبهم في مصر وفي تونس وفي السودان وفي سوريا، وهذا ملف أكبر من هذا المقال.
في الطريق الطويل إلى الحرية أكمل الفرز مهمته.. الإسلاميون هم المنافحون الوحيدون عن الحرية في كل أقطار الربيع العربي، وهم من يدفع ثمن تكريسها في الخريطة العربية. يملأون سجون السيسي الانقلابي، ويتمتع القوميون بحرية تقطيع السَلَطة في مطبخ مضاء، ويؤثث اليسار المصري مهرجان الجونة بفنانين نصف كم ونصف فستان حداثي (أو جندري)، ويبكي زعماء الحزب الشيوعي السوداني مصيرهم تحت حكم العسكر بينما يستجدي اليسار التونسي فرنسا الاستعمار أن تسند انقلاب قيس سعيد كي لا يحاسبهم شعبهم على العبث بالدستور.
الإسلاميون فاشلون في تدبير الشأن العام، ويفتقدون براعة الاستباق وفرض التغيير بالقوة (الاعتذار بسنوات القمع ليس مجديا ولا مقنعا)، كما أنهم يحملون وزر إسناد انقلاب سابق في السودان ارتد عليهم ولقّنهم درسا قاسيا ومفيدا. وقد خافوا بعد الربيع العربي من اليسار والقوميين الشبيحة، وظنوا بهم خيرا أو استكانوا لخطابهم المنافق، بل سعوا للتنسيق معهم باعتبارهم قوى ثورية، لكنهم لم يتورطوا في خيانة الديمقراطية وامتهان حرية شعوب طموحة. يمكننا أن نعدد أخطاءهم في التسيير خاصة في تونس، لكن لم نجد لهم غدرا بالحرية، ولم نسجل عليهم نكوصا عن الديمقراطية التي تطلبها الشعوب منذ قرون، بينما يمكننا أن نعدد خيانات اليسار والقوميين بكل أريحية لا تخشى فُحش الفيسبوك التونسي، حيث يعوض فحش اللفظ بلاغة الحجة.
يرابط إسلاميو تونس حول البرلمان ويعملون على عودة الشرعية، بينما يناور اليسار الانقلابي والقوميون لدفع الانقلاب إلى معركة استئصال ثانية (لا يبدو قادرا عليها لثقل موقف الإسلاميين في ساحة ديمقراطية). وجب أن نستحضر لتوسيع الرؤية العشرية السوداء في الجزائر، حيث وقف اليسار مع العسكر المنقلب على نتيجة الصندوق، فالحالة الجزائرية تذكر من قريب بموقف اليسار التونسي وشقه القومي التقدمي. (لم يفسر القوميون العرب أبدا سر التصاقهم باليسار ونعت أنفسهم بالتقدمية، وهم قوة محافظة تتبنى أغلب مقولات الإسلام السياسي الفكرية وتدعو الى نفس النظام الأخلاقي).
الضارة النافعة
الضارة النافعة هي هذه السلسلة من الانقلابات العسكرية في منطقة الربيع العربي التي ساعدت على فرز عميق لم يكن متاحا في أول انطلاق الثورة، حيث ركب الجميع قطار الديمقراطية، فأشكل الأمر على شعوب تائقة للحرية فلم تفرز في حينها بين ديمقراطي حقيقي وآخر مزيف. لكن السنوات العشر تكفلت بالفرز، وهو من حكمة الثورات السلمية.
لقد سارع الجميع إلى الصندوق الانتخابي فحكم بينها وكشف الأحجام والأوزان في الشارع أولا ثم كشف مدى الإخلاص لمسارات سياسية يبنيها الصندوق. لقد حقق الصندوق فتحان ديمقراطيان الأول أعاد القوميين واليسار إلى حجمهم الحقيقي فلم يكونوا شيئا مذكورا. وكشف أن مواقعهم في السلطة وفي دواليب الدولة كانت حوزا غير ديمقراطي، بل أعطيات الأنظمة القمعية التي أسقطتها الشعوب فهم في بعض السلطة وليسوا من الشارع. وكشف أن الإسلاميين المتهمين بالفاشية والانقلابية هم أحرص الناس على المسارات السياسية الديمقراطية وهم حراسها الفعليون رغم الأثمان المكلفة التي دفعوها قبل الثورة وبعدها.
لا بأس أن يصنف هذا المقال في الدعاية المأجورة لكن الحقائق على الأرض عارية. سيحمل اليسار العربي والقوميون العرب أوزار الانقلابات في مصر وفي تونس ووز استباق ثورة السودان بالتنسيق مع العسكر لقطع الطريق على الإخوان. (وعلى ظهورهم وزر خيانة الثورة السورية) وفي تونس يمكننا أن نتمتع بمشهد سقوط الانقلاب وحاشيته القومية واليسارية قريبا. يمكن للإسلاميين أن يفرحوا بهدية الانقلاب الفاشل التي مكنت لهم بعد.. لكني ممن سيفرح كثيرا بسقوط الروح الاستئصالية التي خربت السنوات العشر الأولى من الثورة العربية. لقد كان الفرز ضروريا وقد حصل ولن أتوقع توبة إلى الديمقراطية لكن في السنوات العشر القادمة سيتحدث الناس عن اليسار والقوميين بصيغة الماضي.