إنه رأس السنة وأسبوعها الأول من شهرها الأول وهو أوان كتابة النصوص السعيدة قبل أن نغرق في هموم كل يوم لكننا في تونس لذلك ففسحة الأسبوع السعيد حرام هكذا رأى رئيس تونس. هل هو الرئيس أم حزامه أم المنظومة التي تشتغل من ورائه أو تتخفى خلفه لتحيل أيام التونسيين إلى نكد وغم. يمكننا تأليف إجابة سريعة لكن لننظر في الوقائع المؤلمة التي يستفيق عليها التونسيون كل صباح.
توجيه تهم واعتقالات بالجملة.
في اليوم الثاني من السنة الجديدة أعلن عن فتح تحقيقي قضائي ضد قيادة جبهة الخلاص الوطني وفي مقدمتهم الأستاذين نجيب الشابي ورضا بالحاج. إلى جانب الأستاذ العياشي الهمامي الذي يقود جبهة المحاماة عن القضاة المعزولين.
في الندوة الصحفية التي عقدتها جبهة الخلاص صباح الثلاثاء تبين أن الاستجلاب للقضاء تم بناء على قضية رفعتها ضد الجميع زعيمة الفاشية قبل نهاية السنة المنصرمة متهمة فيها الجميع بالضلوع في بناء تحالف (وفاق إرهابي) مع مشبوهين بالإرهاب وتعني بهم حزب النهضة وائتلاف الكرامة.
في ظاهر الأمر يبدو كأن المنقلب بريء مما يجري (وأن صدره لا يضيق بمعارضيه) ولكن لفتت الندوة الصحفية الرأي العام إلى أمر مهم وهو سرعة استجابة وزيرة العدل للدعوى وتفعيلها للإجراءات بما جعل حكومة الرئيس وأداته متورطة في الأمر بلا مواربة أو تمويه .
وقد تم التذكير أن قضايا كثيرة رفعت في أزمنة سابقة ضد الفاشية من جهات مختلفة لم يتم النظر فيها من قبل النائب العام ولم تفتح ملفاتها وهو ما يؤكد تقسيم الأدوار بين الفاشية والمنقلب (وحكومته).
عودا على بدء: مهدت الفاشية للانقلاب بترذيل البرلمان وجر بعض مكوناته الهشة إلى صفها وصولا إلى الانقلاب التام عليه وعلى العملية الديمقراطية برمتها. ونشهد الآن الفاشية تستأنف بقية المهمة بأسلوب بن علي واختصاصه أي جر معارضي الانقلاب إلى المحاكم ووضعهم في حالة دفاع عن الحدود الدنيا. هذه كانت مهمتها قبل الثورة وهي المهمة الوحيدة التي تتقنها وقد أفلحت فيها حتى الآن وحققت كل النتائج التي يود الانقلاب تحقيقها.
استشعار منظومة الانقلاب لخطر التحالف مع النهضة.
وجب التذكير أن استعمال القضاء في مطاردة المعارضة قد انطلقت قبل اليوم وأنها بدأت أولا بحزب النهضة باعتقال الأستاذ نور الدين البحيري بالتزامن مع إضراب الجوع في مدخل سنة 2022 ثم استجلاب الأستاذ الغنوشي في أكثر من قضية طيلة السنة مرورا برئيس الحكومة الأولى بعد الثورة المهندس حمادي الجبالي وفي الوقت الذي نكتب فيها يقبع المهندس علي لعريض (رئيس حكومة سابق) وراء القضبان بتهم الإرهاب والتسفير.
لكن هذه الاعتقالات المتتابعة في الصف الأول من الحزب لم تشف الغليل خصوصا وأن القضاء لم يجد بين يديه سوى ملفات فارغة زادت في قوة القيادات النهضوية أمام أنصارهم وأمام جزء مهم من الرأي العام. فالحزب لا يزال متماسكا ويسند جبهة الخلاص ويحرك الشارع بشكل مزعج للمنظومة الانقلابية التي ليست إلا منظومة بن علي بوجوه الانقلاب.(نتيجة عكسية أولى).
وجب إذن العمل على فتح ثغرة في التحالف القائم بين الحزب والقيادات الديمقراطية المعارضة عبر ضرب المكون غير النهضوي في الجبهة. فربما يكون هذا المكون قابلا للتخويف أو أسرع إلى التخلي. لكن التصميم والقوة التي تحدثت بها القيادات اليوم تكشف أن احتمال التماسك داخل الجبهة بمثل هذه الاتهامات أقوى من احتمالات الانفكاك أي أن مفعول الاتهام سينتج عكس المرغوب وسيفضي إلى تقوية الشارع الواقف خلف جبهة الخلاص.(نتيجة عكسية ثانية).
إعادة توزيع القوة بين الانقلاب والمعارضة.
مشهد الانقلاب يطارد المعارضة يحيل إلى مقارنة مهمة: قوة الانقلاب الخاصة في مواجهة قوة الشارع المعارض. مناظرة بقوة نظام بن علي في التسعينات في مواجهة معارضته ويقدم مشهدا جديدا. الأسلوب نفسه لكن بلا وسائل القوة التي كانت لبن علي والنتيجة الأولى الظاهرة للعيان أن عناصر القوة في صف المعارضة لا في الانقلاب. وأكبر عنصر قوة تملكه المعارضة في هذه اللحظة هو تحالفها مع النهضة وكلما اتضح هذا التحالف على الأرض وتميزت مواقفه الديمقراطية خارج كل عقل استئصالي مناور ازدادت قوة الشارع في مواجهة حزام الانقلاب الذي ليس له شارع فعلي.
فضلا عن التحالفات السياسية التي تنسج الآن فإن جسم القضاء لم يعد مواليا برمته للسلطة بشكل آلي. صحيح أن وزيرة العدل قد وجدت قضاتها بسرعة لكن مطاردة القيادات النهضوية وكثير من المدافعين عن الحرية كشف أن الجسم القضائي به عناصر سليمة لا تتبع التعليمات وإنما تحكم على الوقائع الثابتة. (وهذا لا يصب في مصلحة الانقلاب).
إلى ذلك أفاد كل من تعرض للاعتقال والسجن منذ الانقلاب أن الأجهزة لم تعد تضرب المتهمين قبل معرفة أسمائهم وإنما تتعامل بكثير من الرفق القانوني حتى في السجون وهذا أمر مختلف عما كانت تفعل نفس الأجهزة زمن بن علي. (وهذا لا يصب في مصلحة الانقلاب).
نذكر من تنفعه الذكرى أن معارضة بن علي ناورت معه أو تواطأت ضد حزب النهضة ممنية النفس بجزء من غنائم السلطة لكن بن علي استمالها بالوعود حتى قضى على النهضة ثم نكص على عقبيه واستفرد بالمعارضة أفرادا وجماعات. وهي الآن ترى الدرس يعاد ولا يتسنى لي قياس صبرها على الأذى لاستنتج موقفها النهائي. لكن الواضح في الصورة أن تحالفها الآني مع النهضة يعطيها قوة على الأرض ويزعج منظومة الانقلاب ويدفعها إلى ارتكاب الحماقات.(وهذا لا يصب في مصلحة الانقلاب).
خريطة القوة تغيرت وهي تميل إلى مصلحة المعارضة والعنصر الغائب حتى اللحظة هو أن تسير المعارضة في الشارع بعقل منتصر. وهي الرسالة التي تنتظرها القوة الصلبة لتغير موقفها.
الشارع يستبق الجميع.
في اليوم الثاني من السنة تعطلت سيارة نقل خمور في الطريق العام بحي شعبي بالعاصمة فتقافز الناس إلى الشاحنة وأفرغوا حمولتها في تحد صارخ للأمن الغائب. شارع غير مسيّس لكنه متحرر من الخوف. على خلاف الشارع زمن بن علي. وأمن غائب حتى نهاية الجريمة على خلاف أمن بن علي. تحول الأمر إلى مشهد ساخر لكنه يحمل تحريضا على المزيد من الانفلات. فشاحنات توزيع الخمور تجوب البلد وقد تسير لاحقا بمرافقة أمنية، ولكن إلى متى؟
هذا الشارع لا يتابع اعتقال المعارضين لكنه يتبع غريزته في حب البقاء وهو قطعا لا يتابع سخافات الانقلاب وحروب النخب السياسية لكنه يضع قوانين جديدة. أنه يأخذ بيده غصبا عن التراتيب ما به صلاح حاله حتى حقه في البيرة.
حب البقاء يستبق الجميع وقد وفر له الانقلاب الأسباب فهو متحفز وقد يضغط على الانقلاب وعلى المعارضة السياسية في ذات الوقت. أي أن المشهد ينتقل بالتدريج إلى وضعية متابعة الشارع لا استباقه. وهنا تتوسع أزمة النخب التي لا تقدم حلولا سريعة. ومازلت تعمل على توريط الانقلاب في أزمته كما لو أن الشارع ماكث في انتظارها أو يعول عليها فعلا.
في السنة الجديدة سنقف كثيرا أمام المحاكم إسنادا للمتهمين وسيناور الانقلاب بوسائل الدولة حتى يستنزفها وسيقوم الشارع المتحفز للحياة بما يراه صالحا له لكن هذا لا ينفي، بل يؤكد ما ذهبنا إليه إن الانقلاب ميت ينتظر من يدفنه فكل ما نرى علامات على نهاية مرحلة وسنظن خيرا بالمستقبل ليس بعد انكشاف البغي إلا ظهور الحق الديمقراطي.