سافرت وفي نفسها شيء من علم البخنوق. شح بصرها في العقدين الأخيرين ووضعت عدسة على عينها اليمنى وظلت اليسرى ترى من بعيد. الأمل في العدسة تكشّف عن خيبة في الطب كانت سلّمت أن الطب خائب وأن الأطباء قوم بلا قلوب منذ انكسرت ساقها وهي تسقط من زيتونة كبيرة. لم تكسر الساق بل انفصلت مفصل الحقو الأيمن وقام الأطباء بوضع جبس يعيده إلى مكانه لكن القمل تحت الجبس في صيف النكبة أصابها بالجنون فكسرت بيد مهراسها الجبس البغيض فابتعد المفصل عن مكانه فأعاقاها حتى النهاية لم يمنعها ذلك من إضافة ولدين بعدي فقدتهما كليهما بحمى المصارين فتمسكت بي كآخر أمل فهرست لي قشر الرمان الجاف وسقتنيه فنجوت كنا نشرب من عين ماء رومانية استقر عليها مرابط جوال فصنع قرية وأسطورة نبوية.
كانت أمها منى جدتي سادتنها وخالطة البسيسة بزاويتها حيث دفنت أباها قرب الضريح وجعلته مزارا ذلك الجد القديم محقت الشعبة التجمعية ضريحه لأن أحفاده لا يؤمنون بالشعبة وكان ذلك في زمن لم يفلح فيه دعاؤها في كسر الشعبة.
لكن حديث البخنوق سينبت من زرع مختلف. عيناها السوداوان الكبيرتان كانتا سببا لحياة مختلفة معجونة بشقاء القرون. لقد رآها رجل يركب الخيل ويطلق النار من قرابلتين ويسرى في الليل إلى غاياته قال هي وقالت لا مانع وإن عبر عنها أبوها الفقير. كان يبحث عن الأمن لابنته ذات العينين الدعواجيتين والقصة السوداء على الجبين الواضح. كانت طفلة مغرورة وعندها مرآة .
تضع كحلا في الأعراس فيطوف الشبان حول المحفل ليروا عيون مباركة لكن عمر فاز بها فقهر أترابه ودخلت عليه شامخة بوشم أخضر فاضطرت إلى حروب كاسرة مع أمه التي نظرت إلى العالم بعيني نسر جارج لا يتورع عن القتل من أجل السيطرة.
في آخر أيامهما معا يلاعبان الأحفاد ونحن نتظاهر بالغياب كانت تعيره حفيت على ثنية العين لتراني فيقول لها جاءت بك الخيل الشقر. يغلبها بذكر الخيل، تعرف أن موقعه فوق السرج واللثام الأبيض يغطي سمرته القاسية أذابتها وتذيبها بعد اندثار الخيل المسومة حين كانت تطلق أطول الزغاريد فيهيج خياله. كان يعرف زغاريدها من بين نساء الزردة فيلوي العنان لشوط آخر ويقف على سرجه ويطلق النار حتى يسيل الفرس عرقا أبيض ثم ينزل ويسترق النظر من فوق اللثام ويشحن البندقية.
عيناها صنعت مصيرهما وصنعتني أنا ابن عينيها الكبيرتين.
لم تكن قد علّمت علم البخنوق فأمها روحانية منصرفة إلى حضرة صوفية حتى دخلت الدار الكبيرة فوجدت حماة قاسية ضنت عليها بعلم البخنوق ودفعتها إلى الفليج والغرارة فتلك صنعة الكنة أما البخنوق فعلم أم الرجال. تعلمت علم الفليج والغرارة فأثثت بيتها ووسعت خيمتها كانت تنسج الفليج على ضوء القمر فيفيق الناس صباحا وقد زحفت فوقه كأنها تصوره على الورق ولم تكن قد أمسكت قلما.
كان ذلك يثير حقد حماتها إذ يشعرها بأن أم العيون ليست قابلة للضبط في موقع الكنة المستكينة. لذلك تبحث لها عن مثالب إذا غاب الابن الفارس في مهمة وكلما عاد وجد وشاية. وكانت تعرف أن الوشاية باطلة فتكحل عينيها بالإثمد في الليل يذوب إثر الوشاية ويصبح الفارس مزهوا وتصبح الحماة في نكد ولكنها تخفي علم البخنوق كآخر سلاح كيدي.
وتعلمت أم العيون علم البخنوق الأبيض والبطانية البيضاء والشخماء والسوداء دون زينة ثم تقحمت علم البرنوس فاتخذت فيه باعا ولبس فارسها برنسه الذي يقف وحده. واغتمت الحماة وأصرت على أن علم البخنوق علم للخاصة.
كان البخنوق العياشي القادم من قفصة لباسا خاصا لنساء خاصة يلبسنه مرة في العمر لتراه نسوة المحافل ثم يخفى في صندوق الصاغة. به رقم من خيط أبيض على أرضية حمراء أو سوداء معقود بيد خبيرة لم تصلها يد نساجة الفليج والغرارة كانت الحماة تعرف علم البخنوق وتظن به على الكنة ذات العينين السوداوين. وكانت الكنة تطمح ولا تنال فعلم البخنوق إذا انتقل إليها أجهزت على الفارس الذي يفقد توازنه إذا رأى الإثمد في العينين.
تطردها الحماة من حماها إذا نسجت فلا تتعلم تنظر وترى ولكن كيف يتم تدوير الخيط الأبيض على الأرضية الحمراء لتكون جمال ونخيل وخلة وأسماك ونجوم لم يسعفها أن لها وشيجة من نسب في العيايشة وأن جدتها من هناك لكنها تزوجت في غير قبيلتها صغيرة فلم تنقل لها علم البخنوق. الأم ساحت خلف حضرة الربايع مزيج من نشيد صوفي وغناء الطوارق العجم وصلوات وثنية.
فلما عشي بصر الحماة ضاع علم البخنوق وبقيت أم العيون حسيرة تحمل ضغينتها في صدرها وتنسج برانيس سود لولديها وفارسها الذي باع خيله وتعلم التجارة. كانت أيام فقر ومسغبة وكان عليه أن يثبت أبوته كاملة فلا يجوع أبناءه فافلح في التجارة وحمى أم العيون من أن تبيت على عشاء البارحة. جلست إلى ابنتها فتعلمت الزربية وقالت لعب أطفال النساء من يعرفن علم البخنوق ولكن…
كان من علم البخنوق أن تعد الصوف قبل فصل الجز لذلك تتخير نعاجها في الصيف بعد الجز بشهر كامل وتصب زيت الزيتون تحت منابت الصوف فيطول بلا قشرة فإذا حل موسم الجز أوصت فارسها أن يجز نعاجها المخيرات فيكون لها صوف طويل التيلة فتنظفه بالجبس الأبيض ثم تمشطه وتسهر ليلها تقدرش ثم تغزل منها الجداد والطعمة ثم تقيم نولها وتبيت تغني غناء كالنواح على ضوء مصباح نفطي شحيح يعدم عينيها الكبيرتين.
كان علم البخنوق يقهرها وقد حرصت أن تناله لكنها فقدت رأس الخيط سيقرأ ابنها لاحقا قاعدة صلبة في العلاقات الاجتماعية. إن المعرفة سلطة ويحاول أن يفهمها أن علم البخنوق يقلب الموازين في بيتها لذلك حرمته لتظل كنة ويظل للحماة سلطة على الولد وزوجه.
في شيخوختها المتأخرة وقد ألبسها ابنها بخنوق مرقَّم من أسواق العاصمة معد في الأصل للسياح جسته طويلا وتنهدت ولم تتغط به. لم تكن تريده جاهزا منسوجا كانت تريد أن تتقن نسجه لتحكم به راكب الخيل المسومة. فلم تحكم حتى ضاع علم البخنوق فكانت سلطة بلا بخنوق. كان البخنوق سلطة. وكانت تطمح أن تحكم خارج موازين الحماة والكنة فلها عينان تربك الفرسان على سروجهم ولها وشم أخضر على الذقن القمحية ولها الكثير تحت البخنوق الأبيض والطرف القطيفة الأحمر ذي النوارات الخضر.
قال لها ابنها المتثاقف متى وشّمت؟ قالت مرّ وشّام بالدّوار فتدللت على أمي وأنا صغيرة لم أصم رمضان فرضيت بالوجه دون الفارة والزند فخط على أنفها خطا ونقطة وعلى وجنتها اليمنى وضع نقاطا أربعة وعلى الذقن خط ثلاث خطوط ونقطا في آخر السطور. في العاصمة سيجد الابن أن وشم أمه سبة لكنه سيعيش إلى زمن يوشم فيها الذكور أقفيتهم بوشم مختلف وسيقرأ علم الجندر، إن تأنيث العالم مصير جديد دون أن يعرف خُنثى العالم علم البخنوق. ولا اللثام الأبيض على ظهور الخيل حين الوقوع تحت تأثير الكحل في العيون السود.
قال لها كيف أبي والوشم الأخضر؟ قالت كان .... ثم سكتت تختار عبارة خجولة أبوك أحرش لا يتقن الكلام ثم تستدرك لكني لم أشم عليه عرقا أبدا وأتذكر صدر أبي اندسست فيه ألف يوم ولم أشم عرقه لقد أورثني عشقه للماء. وكيف أبي وعينيك؟ فتضحك هل يعلمونكم قلة الأدب في المدرسة؟ فإذا كان قريبا وسمع السؤال همهم ...استعمرتنا بزوز عيون ملا حاجة كبيرة. ماذا تظنين نفسك؟
فتتمتم يزي خير ما نقول للذراري فيخرج إلى الصلاة كأن لم يسمع التهديد. فتنم، كان أبوك يطعم فرسه القمح بزيت الزيتون ويبيت على نعمة الشعير، ولكنه تغير كثيرا بعد أن صار له ولدان. أنت وأخوك غيرتما أباكما كثيرا لقد بات الدهر يفكر في مدرستكما قبل عشائه. لكنه حرم أختينا من التعليم؟ فتقول المدرسة كعلم البخنوق للنساء زمن جدتك فأترجم عنها لكراسي الانتربولوجي كل معرفة سلطة.
لكنها ماتت وفي نفسها الكثير من علم البخنوق. لقد حماها الدهر أن ترى البخنوق هدية سياحية يتذلل صاحبها لينال رضا السائح الأكزوتيك. غيرت الدولة استعمال البخنوق لتستدر به النقد الأجنبي ففقد البخنوق معناه. وتحللت تلك المعارك في النسيان كما تحلل الوشم الأخضر والعيون السود والسرج المطرز تحت الفارس الأسمر في مضامير مجد غبر…
تلك أزمنة غبرت فأورثتنا جروحنا.. فنحن نهيم بها وفي النفس شيء من علم البخنوق لم نلنه فهمنا تحت أسوار مدن تغلق أبوابها دوننا نحن الذين علمنا البخنوق...دون نسجه على ضوء القمر ... فلم يزدنا الدرس إلا حنينا للعيون السود ....