نبحث عن جملة ساخرة لتخفيف المشهد السخيف الذي يمر به المشهد السياسي في تونس.. نسمي التطعيم بالتلقيح فنجمع التلقيح على تلاقيح، لكن لا نستبعد المعنى المصري للكلمة. هناك تلاقيج جثث في المشهد، أحدهم رمى قنبلة في قصر قرطاج فارتج الأمر على الرئيس الذي يرى ما يريد ويسمح صوته المتفرد. هذا "الأحدهم" نعرفه جيدا في تونس، وقد كانت هداياه للقصر دوما ألغاما متفجرة لتدمير المشهد الديمقراطي في تونس.
شحنة تطعيم ضد الوباء أهديت للقصر دون المرور بالمسالك القانونية والصحية، وظن من تلقاها أن سره غير مكشوف، ولكن مرسل الهدية تعلم بسرعة أساليب تسيبي ليفني.. تخادن وتنشر الصور. حصل شيء مماثل.. تكلم الإماراتي عن الهدية وتكفل نواب البرلمان بنشر الخبر، فإذا القصر في "حيص بيص".
أكد البلاغ الرسمي تلقي الهدية وإيداعها لدى إدارة الصحة العسكرية (وزارة الدفاع)، وفتحت الحكومة تحقيقا جنائيا، وفي الليل أنكر الرئيس الخبر متهما مروجيه بالكذب. سيختصم التونسيون حول ذلك بقية الأسبوع قبل أن تحل كارثة أخرى تنسيهم هذه، كما نسوا حكاية الظرف المسموم الذي لم يقتل أحدا ولم يحقق فيه أحد.
لقد كانت هدية ولكن مسمومة
ينكر أنصار الإمارات في تونس أنها تساعدهم وتوجههم، لكنهم يتناسون ما صرح به الرئيس الباجي في حياته من أنه تلقى أموالا ووُعد بأخرى إذا دفع بقوته وقوة حزبه (النداء) إلى إقصاء حزب النهضة من السلطة بعد انتخابات 2014. لم يدخل الباجي هذه اللعبة الخطرة والتي وصفها بمشروع حرب أهلية، ولكنه أثبت تهمة التعامل مع كيان أجنبي معاد للتجربة الديمقراطية في تونس. لم تنفك الإمارات تحاول، ونعتقد جازمين أن شحنة التطعيم تأتي في هذا السياق.
من الواضح أنها وصلت القصر بطرق الحقيبة الدبلوماسية، فلتونس مؤسسات مهيكلة ترعى وتراقب دخول الأدوية البشرية ومراقبتها، مثلما تراقب كل عقار كيماوي مهما كان وجه استعماله، فلما اطمأنت الإمارات إلى وصول الشحنة إلى مستقر غير قانوني فضحت اللعبة، فوضعت الرئيس وطاقمه في ورطة قانونية وأخلاقية وسياسية. أين الشحنة؟ بحسب البلاغ الرئاسي الأول قبل التكذيب هي ترقد الآن عند إدارة الصحة العسكرية، أي خارج مجال نظر اللجنة العلمية المكلفة من الرئيس (رئيس مجلس الأمن القومي) بمراقبة مسالك علاج كورونا. لماذا الهدية ولماذا فضحها؟
لو لم تفضح الهدية لظننا أنها خدمة أخوية للرئيس وطاقمه، وقد تأخر توريد اللقاح للشعب بفعل تهاون الحكومة، طبقا لتقاليد البلدان غير الديمقراطية التي تدلل الحاكم على حساب شعبه وتتعامل خارج القانون والمؤسسات، ولكن فضح الأمر في الإعلام يسقط فرضية هذه الخدمة أو المكرمة وعلينا أن نبحث عن معنى آخر، فماذا يكون؟ لنقل إنها في البدء وفي المنتهى هدية مسمومة أو هدية قنبلة، القصد منها تفجير وضع يعيش على حافة الانفجار. لننظر الآن في الأثر المباشر.
تدمير الرئيس
عاش الرئيس برصيد العفة والتعفف، وهو ما يفتأ يبرز نظافة يده من المال العام، وحتى الذين ينقدونه لضعف الأداء السياسي والذين يناصبونه العداء لأسباب سياسية خاصة بهم؛ لم يتجرؤوا على الطعن في ذمته المالية (وهم الذين يتذكرون سيرة ابن علي في المال العام ولم تكن يد الباجي نظيفة). فإذا قبل الرئيس الهدية ولو بطرق غير مشروعة فلا ضير إذا سلمها إلى الجهة المختصة (وهو ما كان منتظرا منه شعبيا)، ولكن أن يخفيها ويكتمها وهو ما كان منتظرا منه إماراتيا، فإنه يصير في موقع من يستغل منصبه لتحصيل فائدة دون الشعب في ظرف وبائي، ويكون آثر نفسه دون الناس بالعلاج (ونحن ممن يصدق أنه لم يعالج نفسه قبل غيره). لكن كان المطلوب أن يرتكب حماقة الإخفاء بيده أو بيد طاقمه، وهو الأقرب إلى الظن، فيكون قد وقع في الفخ الذي نُصب له ومن هنا جاء الفضح. فمن يستفيد من فضيحة الرئيس وتدمير سمعته الأخلاقية التي يسوق بها نفسه للناس وهو يطوف لصلاة الجمعة من مسجد إلى آخر، في غياب كل إنجاز محسوس؟
تلقف خصوم الرئيس ومناوئوه، وفي مقدمتهم حزب النهضة وأنصار الحكومة وكثير ممن خابت آمالهم في ما علقوا عليه أيام انتخابه، فشنّعوا عليه تشنيعا وباتوا ليلة الاثنين صباح الثلاثاء يسخرون منه ومن أسلوبه ومن عفته الكاذبة. لكن هل كان الفضح الإماراتي خدمة للحكومة وحزامها السياسي، والنهضة عدو الإمارات جزء أساسي منه؟ سنكون على قدر كبير من السذاجة لو سلمنا بهذا الطرح، فهدف الإمارات الذي لا تخفيه هو إسقاط حزب النهضة وتدمير كل من يتحالف معه، وذلك واضح للتونسيين منذ بدء الثورة. من المستفيد إذن؟
فتح الطريق للفاشية
كان من المنتظر أن يدعو البرلمان وخاصة النواب الذين نشروا الخبر؛ وزير الدفاع والمدير العام للصحة العسكرية (اللذين ورطهما بيان القصر في حفظ الهدية)، لكن شيئا من ذلك لم يحدث وهو ما يرجح عندنا الوجه الآخر للفخ. لقد تفطن الذين شنّعوا على الرئيس أنهم سيفتحون الطريق للفاشية إذا أزيل الرئيس من الطريق، بتدمير سمعته أو بدفعه إلى استقالة محبطة. الملاحظ في هذا الصدد أن صفحات الفاشية صمتت صمت القبور عن الفضيحة وبقيت تشاهد الحملة على الرئيس. هل غيرت الإمارات حصان رهانها في تونس فنقلت ثقلها كاملا وراء الفاشية؟
نرجح هذا الاحتمال على احتمالات أخرى؛ منها خدمة الرئيس بشكل ودي. فالمشهد الآن يكتمل.. الرئيس "المعطل والجاهل والمحتال".
يقف حاجزا مانعا لاكتمال الحكومة بشكل دستوري (برفض أداء القسم)، وهذا يحط من قيمته ومن حكمته كما حط من تفرده بتأويل الدستور، ففقد سمعة الخبير الوحيد. تتكفل النهضة وحزام الحكومة بتدميره وتدمير حزامه، وخاصة حزبي التيار وحركة الشعب المتحمسين جدا له والمدافعين عنه بشراسة. فمن يبقى في مواجهة حزب النهضة، الهدف الإماراتي الذي لا تحيد عنه؟
كل خسارة للرئيس تصب الآن في مصلحة الفاشية للتفرد بقيادة الحرب ضد النهضة والحكومة من ورائها، وكل انتصار في السياق يرفدها بالخاسرين من خسارة قيس وكل مناوئ للحكومة والنهضة بالضرورة ولو من خارج هؤلاء، وخاصة تنسيقيات الرئيس التي نسمع عنها ولا نراها. وبنسق تصاعدي حتى 2024 تكون قد استحوذت على الساحة، وقدمت نفسها في صورة المخلص. وإذا حققت أي انتصار إضافي في الطريق مثل سحب الثقة من رئيس البرلمان فمرحبا، فذلك مكسب لها ولمن يراهن عليها. هل كان فضح الهدية قد رتب لهذه الغاية؟
إنه وجه من وجوه تأويل الحدث نقف عنده ولا نستهين به، لكننا ننتظر تحركات تؤكده بمحاولة إفشاله وهو يتضح مع تقدم الزمن.
سيكون انحناء الرئيس وقبوله أداء القسم علامة على طريق تراجعات خائفة من هذا الاحتمال، وسيكون خفض مناوئي الرئيس (وخاصة حزب النهضة) لحدة الخطاب ضده علامة أخرى.
هل يقبل مراقبو الوضع التونسي من الدول الأوروبية أن يروا الفاشية تتقدم على حساب التجربة الديمقراطية؟ تدخلاتهم في الأيام القادمة ستقرأ في هذا الاتجاه. وقد تكلم سفير الاتحاد الأوربي يوم الثلاثاء؛ عن تفضيله الحوار في تونس، والحوار معروفة أطرافه وليس منها الفاشية.
لقد كانت هدية لغما وقد فجرت وضعا على حافة الانفجار، ونظن أن الرجات الارتدادية ستكون أقوى في الأيام القادمة.