لم تكن أجهزة الأمن وحدها كافية للسيطرة المطلقة على شعب أعزل من كل سلاح أو وسيلة احتجاج قانونية، فرغم قدرة هذه الأجهزة على العمل الأمني خاصة خارج الرقابة الحقوقية على عملها فإن بن علي ونظامه بنوا شبكة من المخبرين في مستويات مختلفة بلغ عددهم 40 ألفًا وهو عدد أقل من الحقيقة رغم ضخامته.
أسئلة كثيرة عن طريقة التجنيد وأسلوب العمل تطرح نفسها على المؤرخ وعالم الاجتماع والسياسي المشتغل بالشأن العام خاصة بعد سقوط النظام، لكن أسئلة أخرى تفرض نفسها: كيف ذابت منظومة الوشاية بعد الثورة وتلاشت أو كيف تحولت ليمكن لهؤلاء أن ينجوا بأفعالهم بعد ثورة قامت عليهم؟
سيكون من العسير العودة إلى تتبعهم كأفراد ولكن دور السياسيين بعد الثورة يكشف أن وعيهم بالتغيير كان أقل مما تطلبت الثورة، بل إن مهادنة هذه المنظومة المبنية بإحكام لغايات سياسية حينية أنقذت هؤلاء وسمحت بتسريبهم من جديد إلى مفاصل الدولة وعطلت كل طموحات بناء الدولة الحديثة، وسنخوض في هذا دون أمل كبير، في مناورات النخبة التي ورطت الثورة مع منظومة الـ40 ألف مخبر.
التجمعيون النظاف
قفزة السيد نجيب الشابي المعارض الكبير لنظام بن علي إلى حكومة محمد الغنوشي كانت الباب الذي فتح للقوادين (لفظ القواد في تونس يعني المخبر الواشي وليس بمعناه في الشرق العربي) فعادوا منه سالمين غانمين بعد مرحلة السفساري (الستة أشهر الأولى من الثورة حين اختفى هؤلاء في أزياء النساء لكي لا تلتقطهم عين الشباب الثائر في الشارع).
قال السيد نجيب بوجود تجمعيين نظاف ليس عليهم جرم أمني أو فساد ومهد لاستعادتهم لأغراض حزبية، فقد كان للرجل طموحات حكم تتجاوز قدرته على التأطير والإقناع بغير تلك الحيلة.
تطهير التجمعيين فتح شهية بقية الأحزاب التي عاشت طويلاً في المعارضة دون أن تفلح في بناء قواعد سياسية للاستحواذ على جمهور قطيعي فقد حزبه ويبحث عن مخبأ سياسي يحتمي به من الشارع الثائر ولكن غير المتحزب، وكانت تلك بداية نقل المعركة من محاسبة هؤلاء إلى معركة التنافس على استقطابهم واستخدامهم انتخابيًا، لذلك لم تمر السنة على الثورة حتى وجدنا تجمعيين في المجلس التأسيسي يكتبون دستور الثورة.
سنة 2011 رغم زخمها الثوري كانت أيضًا سنة تطهير الـ40 ألف مخبر، فوجدنا منهم في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس المرزوقي) ووجدنا منهم في حزب التكتل (مع الدكتور مصطفي بن جعفر) ووجدنا قليلاً منهم في حزب نجيب الشابي، فالرجل الذي فتح لهم باب العودة حظي بأقل القلل منهم، هذه البوابات جعلت الفصل 15 من قانون انتخابات المجلس التأسيسي غير ذي جدوى، فقد تسرب القوادون عبر بوابات الثوريين إلى المجلس، ولم يقف الأمر على هؤلاء فقد والى حزب النهضة منظومة القوادين.
حزب النهضة طمع في ولاء القوادين
اغتيال شكري بالعيد صبيحة عرض قانون العزل السياسي على المجلس التأسيسي كشف أن المنظومة تماسكت وعادت للعمل بقوة ولم يعد ممكنًا إيجاد إجماع على إقصائهم من المشهد بالقانون بعد أن فشلت بالحسم الثوري.
استقطب حزب النداء أغلبهم طيلة العام 2012، فوجدت النهضة (المتصدرة للحكم) نفسها في مواجهتهم وقد وجدتهم في تحالف موضوعي مع اليسار الاستئصالي، ففضلت مهادنتهم أولاً بالترخيص القانوني لحزبهم الجديد، ثم بدأ الحديث في أوساط النهضة عن التجمعيين النظاف أسوة بالسيد نجيب الشابي.
وصار الخطاب داخل أوساط النهضة أن تجمعيًا غير استئصالي أفضل من يساري استئصالي، وقال نهضويون كثر أن معركة العزل السياسي ليست مهمة النهضة وحدها فما دام الآخرون يهادنون التجمعيين فهي معنية بالاستقطاب منهم مثل غيرها من الأحزاب، حتى كان اغتيال الحاج البراهمي إيذانًا بنهاية كل أمل في عزلهم وقد صاروا القوة السياسية الأولى في المشهد بقيادة الباجي قائد السبسي الذي لم يقل فيهم شرًا ولا خيرًا، ولكنه بنى بهم حزبًا ربح انتخابات 2014، فعادوا إلى السلطة سالمين غانمين.
لم يقل النهضاويون أن التجمعيين أقوى منهم بل كانوا يرددون أن لن نحاربهم وحدنا، وكانوا يجدون مبررات ذلك في محاولات استقطابهم من بقية الطيف السياسي، والحقيقة أن صور اعتصام الرحيل التي مولها التجمعيون من وراء واجهة يسارية استئصالية كانت مبررًا كافيًا للنهضة لكي لا تخوض معهم أي نزال سياسي، فروجت لحديث التوافق بعد الانتخابات.
كان النقاش العقائدي عن مسودة الدستور سببًا لتنمر اليسار على النهضة و(الترويكا)، ولكن لم يكن التجمعيون معنيين بذلك النقاش بقدر ما كانوا معنيين بعودة سياسية إلى المشهد والتحكم فيه، فاغتنموا رفض اليسار وطيف واسع من الليبراليين لمسودة الدستور ليستعملوه في إسقاط النهضة وائتلافها.
منظومة الـ40 ألف مخبر لم تكن يومًا معنية بخيارات ثقافية ولم تنضج بدائل فكرية لمجتمع حداثي بل هي العامود الفقري للمحافظة بل للرجعية ولكن طموحها إلى السلطة كان ذريعة لتبني كل مطالب اليسار والحداثيين بمختلف مشاربهم السياسية ليعودوا من خلالها، وأكبر الأدلة على ذلك هي أنهم أعادوا التحالف مع النهضة دون أدنى سؤال عن رجعيتها وسلفيتها وإرهابها، خاصة وقد وجدوها مكسورة الجناح بعد فشلها في الحكم، لقد كان فشلها مفيدًا جدًا للعودة على ظهرها، وغير مهم عند منظومة القوادين أن كان اليسار قد خرج من هذا المولد بلا حمص.
لقد عرفت منظومة القوادين نقاط ضعف معارضيها فاخترقت وعادت.
هل يمكن العودة إلى المحاسبة؟
هذه من أحلام الثوريين لذلك خفضنا سقف التوقع منذ البداية، ليس بمثل هذه النخبة السياسية يمكن محاسبة نظام ثار عليه الناس، فالطمع في السلطة والسعي إليها بأكثر الأساليب انحطاطًا ليس عيب منظومة القوادين وحدهم بل إن معارضيهم نسخ منهم وإن اختلف الخطاب في درجات الثورية.
المنظومة تعرف أعداءها، فقد ربت الكثير منهم، فنحن نتحدث عن 40 ألف قواد (واش) خدموا نظام بن علي وننسى أن الوشاة من خارج نظامه كثر ومنهم يسار ثوري كان مستعدًا ولا يزال لقتل خصومه الإيديولوجيين ولو بالاستعانة بأشد الأنظمة بؤسًا، ونحن نشاهدهم اليوم يحجون إلى دمشق بشار مستبشرين بانتصار على الخوانجية، متغافلين عن الفرق بن نظام بن علي ومنظومة الوشاية ونظام بشار ومنظومة القتل البعثية.
بمثل هؤلاء لا يمكن تطهير بلد من القوادين، بل إن لفظ التطهير هنا قد يودي بمستعمله إذ يمكن تدبيج تقرير وشاية عظيم انطلاقًا من استعمال اللفظ فقط دن المرور فعلاً إلى تطبيقه.
هل نعدم الأمل في بناء بلد بلا منظومة وشاية؟ ليس هذا طموح المقال ولكن وجب النصح بالصبر على طول مسافة بناء الديمقراطية، حيث ستنعدم الجهة المتقبلة للوشاية فيحال الواشي على بطالة قسرية ويحتفظ فقط بالخزي والعار أمام جيرانه ومع جلاسه في المقاهي، حيث قد يذكره بعض العابرين من حوله بأن الجلوس إليه عار وفضيحة، لأن عار الوشاية كلون الوجه لا يمكن إخفاؤه بمساحيق الثورية الفجائية لأني نسيت أن أشير أعلى المقال إلى أن قوادي بن علي صاروا في أغلبهم نقابيين فحولوا النقابة إلى مستودع قوادة يحرضون من خلالها الشعب البائس ضد الحكومات.