سنسميه مؤقتا الحراك الدستوري أو حراك الدفاع عن الدستور في انتظار أن يتخذ سمتا سياسيا أشمل وأدق في قادم الأيام. فقد انطلق، ولكن في طريق طويلة قد تغير من ملامحه وأسئلتنا حتى الآن تنطلق من البداية المتحمسة؛ ولكنها لا تغفل عن العوائق التي ستقوم حتما في الطريق وهي عوائق متعددة ومتشعبة قد تعصف بالحماس الشبابي قبل أن يصل محطته النهائية ويحقق مطالبه التي قام من أجلها.
ملامح عامة ظاهرة على وجه الحراك
دون معطيات إحصائية دقيقة نقرأ الحراك الذي انبثق يوم 18 سبتمبر/أيلول وصرخ بعودة الشرعية ثم تقدم خطوة جبارة في الكم والنوع يوم 26 منه. على أنه حراك شبابي متحرر من القوالب الحزبية. ففئات الأعمار الغالبة هي فئات العقد الثالث والرابع وقد رفدتهم فئات العقد الخامس والسادس.
ميزة هذه الفئات العمرية أنها عاشت زمن الدكتاتورية وخبرت شرورها وعاشت فترة سنوات الثورة والانتقال الديمقراطي وعرفت فوائدها وآمنت بمكاسبها، ولذلك نعتبر أن خروجها ضد الانقلاب وأنصاره هو خروج عقلاني لديه مكاسب سياسية أصلية يدافع عنها ويمنع تفتيتها لصالح أطروحة حكم بلا وجه ولا خريطة.
لقد غابت القيادات الحزبية التقليدية وحضر بعض جمهورها (التخصيص على حزب النهضة)، ولكنه اتخذ في الغالب الموقع الثاني خلف الشباب غير المتحزب ولم ترفع في الحراك رايات حزبية ولا شعارات فئوية بما أعطى للحراك صورة حراك مستقل وواع ولو لم تنبثق منه خارطة طريق مقابلة لخارطة الانقلاب (الغائبة بدورها إلا نتفا في خطاب متوتر). وغياب هذه الخارطة القيادية حتى الآن سيشكل غيمة كثيفة على مستقبل الحراك وترفع درجات الريبة واليأس. فضلا عن غياب رموز وازنة يمكن الاطمئنان لها كقيادة تحظى بإجماع باستثناء بعض الأصوات التي برزت إعلاميا في المدة الأخيرة واتخذت مواقع قيادية دون تفويض حقيقي. وهذه عقبة أخرى في الطريق.
العفوية الشعبية نار في قش
بين يومي 18 و26 سبتمبر/ أيلول تغيرت الشعارات المرفوعة فبين المطالبة بعودة البرلمان (المؤسسة الشرعية)، والمطالبة بعزل الرئيس (مطلب ثوري) يمكننا القول بتقدم الحراك على طريق التجذير ورفع السقف السياسي وهو تغير منذر بفشل لا بنجاح.
لقد كان الدكتور المرزوقي أول من ألقى بمطلب العزل والمحاكمة في الساحة فظهر تأثيره مباشرة في شعارات الحراك. وإذا كان يسر النفس المنفعلة أن تسمع مطالب العزل التي تحقق متعة الانتقام فإن تغيير الوجهة بسرعة يكشف عفوية الحراك وسرعة التحكم فيه عن بعد لصالح جهات قد لا تتفق بدورها على قيادته ومطالبه. فتكشف سرعة احتراق الحماس الشبابي كما يحترق القش بنار قليلة. وقد كانت هذه عاهة كل تحرك شبابي منذ الثورة ونراها قابلة للتكرار الآن. ينطلق الشباب معتمدا على نفسه فتظهر من خلفه قيادات متمرسة ومحتالة فتكيفه على هواها إما برفع سقفه بما يعجزه أو بتخفيضه وقبض ثمنه قبل نضجه.
هناك معطى مهم يجب أخذه بعين الاعتبار هذا الحراك فقير ولا يملك إلا قوة حناجره وفقره عائق داخلي يجعله غير قادر على الإنفاق على نفسه فكلفة التنقل لمظاهرة من الدواخل إلى العاصمة تعتبر باهظة لموظف بسيط أو لشاب عاطل وجمهور العاصمة وحده لا يكفي لقلب المعادلات السياسية، لذلك فإن القدرة على الاستمرار والمثابرة على طريقة الحراك الجزائري (أكثر من ستين أسبوعا من التظاهر المستمر) ليست متاحة للكثيرين وهذا باب خلفي يمكن أن تدخل منه الأحزاب فتقطف ثمرة الحراك.
الحراك نشأ في محيط استئصالي
خطاب الاستئصال يحاصر الحراك الشبابي ولا تبدو النخب الحزبية مستعدة للاتفاق داخله أو من حوله على دعمه من دون توجيهه لصالحها. وقد انكشف الأمر بسرعة فبيان حزب النهضة المساند لكل حراك مضاد للانقلاب (وهو دعوة مبطنة للمشاركة فيه) انطق زعيمة الاستئصال الجديدة (السيدة عبو) بالدعوة إلى عدم المشاركة مادام النهضويون موجودين. وهذا يجعل الحراك في حالة دفاع عن نفسه لا فقط من أنصار الانقلاب، بل من جمهور الأحزاب المتصارعة حول ما بعد الانقلاب. فعليه أن (يطهر) نفسه من الحضور الحزبي ليرضي جميع المحيطين به وأنى له أن يمنع مناصرين ولو لم يكشفوا لونهم الحزبي؟
الروح الاستئصالية التي خربت الساحة السياسية منذ الثورة لا تزال قائمة وفاعلة. وقد كان لها أسوأ الأثر على مسار الانتقال الديمقراطي وهي التي مهدت للانقلاب وبررته ولا تزال تفعل بحماس وإن أنكر الاستئصاليون ذلك. وإذا حاصرت الحراك المناهض للانقلاب فإنها ستؤدي به. وتمنعه من بلورة مطالب يتفق حولها جمهور كثير ووازن. وستعمل كما اعتادت على تحريفه وجذبه إلى داخل مصهر الاستئصال السياسي فتفرغه من مضمونه. فاذا رفض حاربته بوصمه في مناخ إعلامي منحاز إلى الانقلاب وقد أصبحنا نقرأ صبيحة 27 -09 إن مظاهرة الأحد كانت مظاهرة نهضوية خالصة. وهذه بداية التخريب.
نكتب مشفقين على الحراك بعد تجربة مريرة مع الاستئصاليين المغرمين بصورهم الخاصة والغارقين إلى الأذقان في شهوة الاستئصال لا يبرحونها. ولذلك نكبر والآمال التي أخرجت الشباب إلى الشارع مدافعا عن دستور بذلت في كتابته دماء وجهود كثيرة صادقة. وفي ذات الوقت نخفض سقف التوقعات ونستعيد خطاب الواقعية المر.
الانقلاب لم ينتج لدى الديمقراطيين نقدا ذاتيا لتجربتهم في الحكم وفي المعارضة ومازالوا يتطهرون فيعلقون كل الفشل على غريمهم الإسلامي ويستمرون في محاربته طمعا في إخراجه نهائيا من المشهد السياسي. ومادامت هذه الروح متفشية في الساحة فإن الانقلاب يملك وقتا كثيرا ليفعل ما يشاء. لقد رفع الشباب شعارا عظيما (وحدة وطنية ضد الانقلاب) لكن العقل البارد يرى ذلك حلما جميلا لم يحن أوانه مع هذا الجيل السياسي. سيحكم العقل الاستئصالي على الحراك الدستوري ويذيب حماسه وينقذ الانقلاب في النهاية.