نكتب في مديح غزة وطوفانها المؤسس ونتوسل بذلك شرفا، فغزة تغير العالم وهي في ذلك المكان الصغير في جغرافيا متكلسة. شهور سبعة من النار مسلطة على بشر بلا غطاء ولا سلاح ثم ينتصر العُزّل على آلات القتل المتطورة وأي انتصار لقد عبثت غزة بأقوى القوى العسكرية في الزمن الحديث. هذا العبث المهين بالقوة الغاشمة هو التغيير إنه بذور الشجاعة والإقدام والعزم في عالم موبوء بالخوف والتوجس وحب الحياة المادية التي تغرقه فيها شركات تصنع الحلوى وتصنع القنابل في ذات الوقت.
طوفان غزة تحرير للمكان أولا وهذا ظاهره القريب ولكن طوفان غزة تحرير للإنسان في كل مكان. هو تحرير العقل من الخوف وتحرير الخيال من الجمود. تقول غزة بوضوح يمكن للفئة القليلة أن تنتصر دوما على كل طغيان ولهذا فإن العالم يتغير. سنفصل بمتعة وجوه نصر غزة ولن نكتفي بمقال واحد.
تحرير المكان الأقرب
اللحظة الغزاوية في صبيحة عيد الفطر انتصار باهر. العالم يشاهد العدو غارق في رمال غزة القليلة فلا هو يحقق أهدافه التي أعلنها ولا هو يفلح في الخروج السليم وضربة الزنة في اليوم 182 من الحرب دوخته وشتت عقله الحربي، ولا شك أنه يطرح ألف سؤال من أين يخرج عليه المقاتل الغزاوي وقد أعلن أنه قضى عليه. نحن أيضا لا نعرف من أين يخرج المقاتل لكنه يخرج ويضرب وينتصر سنعرف ذات يوم.
مازال العدو يهدد بالغزو في منطقة رفح وهو يملك أن يدخل ولكن كل من ينصحه يذكره بأنه إذا دخل لن يخرج إلا بمثل ما أصابه في الزنة وفي أخواتها في الدقيقة تسعين من المعركة. إنه يملك أن يقتل عددا كبيرا من الناس وهذا صار من اختصاصه أمام العالم لكنه لا يملك أن ينتصر. لقد فقد القدرة على التخويف وهو يرى غزة تتحدى جبروته بأقل القليل من السلاح. هذا العدو لم يعد يخيف أحدا وهذه أكبر هزيمة. لقد أنفضح في غزة.
لا نخوض هنا في مصداقية رفض الغرب لهجوم صهيوني على رفح فالغرب السياسي منافق وكذاب بالجملة والتفاصيل. (وجب أن نميز الآن وبعد الطوفان بين غرب الأنظمة وغرب الشعوب). نكتفي بالتأكيد على أن الغزاوي حرر غزة ووضع على طاولة العالم أن كل من يدخلها سيهزم وأن على كل العالم أن يتحدث مع غزة مستقلة وحرة ومتحدية. ولقد تحررت أولا من الخوف من دفع أثمان الحرية. وهذا يدخل في باب تحرير الإنسان.
تحرير العقل الإنساني
يمكننا الآن الحديث عن الحالة الغزاوية بصفتها حالة من تحرر الإنسان من خوفه قبل التحرر من عدوه. فالتحرر من العدو بني على تحرير الذات من خوفها. لأن منطق الحرب وتوازناتها كان لغير صالح غزة في البدء والنصف والخاتمة. لم يكن هناك مجال لمقارنة قوة العدو بقوة غزة العسكرية وكان منطق (جاهد بالسنن يا أبا عبيدة أقرب إلى النفس الجبانة). لكن غزة خاضت حربها بعلم مسبق بفارق القوة المادية إنما فارق القوة الروحية. وكان الفارق الروحي لصالح غزة لذلك نراها انتصرت على خوفها ثم على عدوها ونشرت هذه الروح المنتصرة بين ناسها وحولهم في ما نأمل ونتوقع.
إن غزة تتحول إلى موجة حرية. تحرر غزة من خوفها ظهر في صمود السكان من حول المقاومة وفي كل تفصيل يومي وفي قمته رفض التهجير بما هو إيثار للسلامة الجسدية مؤقتا (سلامة جسدية ليس إلا).
موجة التعاطف الدولي حيث صارت الراية الفلسطينية هي الراية الوحيدة في سماء العالم منذ سبعة شهور وستتواصل خفاقة بين شعوب تحررت بدورها من كثير من خوفها من الدعاية الصهيونية المهيمنة على العالم منذ قرن. غزة صارت حركة تحرير وعي كوني. سبعة شهور كانت كافية بمحرك غزاوي يدور بالدم النقي الصادق أن تعدل الصورة في أذهان كانت مستعبدة برواية كاذبة تأسست عليها سياسيات ومواقف دولية وشعبية وظلمت غزة وأهل فلسطين ظلما يصعب جبره في مدى قصير.
الإنسان الغزاوي الآن حر من الداخل وحر من الخارج ويمكنه بعناء كبير أن يعيد ترميم بيته ومدرسته ومشفاه وأن ينحب في أرضه من يعوّض شهداءه وغزة ولادة وقد حملت بنصر وأنجبت بعد. طريق الترميم طويلة مثل ما كانت طريق تحويل المخيم إلى مدينة لم يعد يمكن محوها وإن تم هدمها.
هذه مكاسب حرب غير متناظرة ولكنها حرب عادلة أنصف فيها الأضعف نفسه من الأقوى بقوة الإرادة. أما مدى نصرها وتأثيراته فنتوقعها شاملة وعامة وستصل أولا إلى الجوار القريب فتبث فيه روح الحرية. نتوقع هذا ضمنا دون توقع شكل الحركة وزمنها ولكن الناس ترى وتفهم مهما ظن بها من سوء فهم.
يتجاوز تأثير حرب الطوفان حتما تأثير الربيع العربي لجهة بث روح التحرر من جديد بعد أن طمست بما يسمى بالدويلات الوطنية (العربية أعني). لقد كان الربيع العربي مرتبكا إزاء قضية الحرية وتعرض إلى الغدر به من منظومات حكم قوية ومسلحة وغادرة انقلبت عليه ولكن تبين بغزة أن الحرية ممكنة وهي ليست مجرد أمنية في قلوب شعوب مقهورة بل إمكان قابل للتحقق بشيء من الصبر والعناء.
غني عن القول أن العدو الذي حارب غزة ودمرها كان سببا رئيسيا في تدمير موجة الربيع العربي بيده وبيد عملاء له في المنطقة بذلوا من المال والجهد الكثير ليطمسوا الموجة لكن الخامة كامنة وغزة صبت عليها ماء الحياة كما يصب غيث على بذرة. والمأمول أن تنبت البذرة وتهتز وتربو كما في قوانين الطبيعة.
متى وكيف هذه الأسئلة تعاودنا دوما كأننا نملك قناة من قنوات الطبخ لنقدم طريقة في قلي البيض. نقول للإجابة عن أسئلة عجولة تود أن تستفيق على غزة تدخل القدس فتشاركها الحفل ولا تبذل جهدا في تحرير قلوبها من الخوف. إن غزة صارت عنوان الحرية الممهورة بالدم وكل إجابة عجولة لا تستعد لدفع الثمن (بعض الثمن الغزاوي يكفي) ستظل في منطقة التمني العاجز لأنها لم تفهم ما فعل الغزاوي بنفسه لينتصر عليها قبل أن ينتصر على عدوه.
غزة حالة حرية فمن التقط ذلك حقق مبتغاه في نفسه أولا ثم فاضت حريته على ما حوله فحرر وطنه من نفس العدو الذي قهرته غزة وأعجزته عن إعادة احتلالها مهما زاد في قوته. غزة رسالة حرية في قلب الفرد أولا وفي قلب العالم ثانيا فمن قرأ الدرس الغزاوي سار في إثر غزة حرا إلى الأبد.