كان الجميع يطالع أفكار الرئيس حول النظام السياسي الذي يفضله والمتناقض مع دستور 2014، لكنهم لم يولوا الأمر ما يكفي من الحذر والحيطة حتى وقفوا على حقيقة واضحة وبسيطة. الرئيس يفرض نظامه السياسي ويلغي الدستور الذي استغرقت صياغته ثلاث سنوات من النقاش السياسي والصراع المدني ليبني نظاماً سياسياً تعددياً يقطع مع سلطة الرجل الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد.
في هذه الأيام يعود الكثيرون إلى لحظة انتخابات 2019 ويطرحون الأسئلة كيف وقعنا في فخ قيس سعيد ومنحناه الثقة المطلقة؟ هل كان التونسيون ضحية مؤامرة أكبر من خيالهم وضعتهم حيث هم الآن عاجزين عن حماية دستورهم من إرادة شخص واحد؟
فات أوان الأسئلة وهذه أيام للحيرة والحزن أو للانتفاض. فمن لدستور 2014؟
الخطر الداهم: ذريعة كاذبة
لم تكن سنوات الثورة العشر بما فيها سنوات كتابة الدستور وردية، لقد سادت حالة من المطلبية الفجة حولت إمكانات الحكومات إلى تلبية مطالب نقابية منفلتة في المؤسسات العمومية، فانصرف جهد الإنماء إلى الترضيات القطاعية، وسقط من غربال التنمية المفقرون والمهمشون الذين كانوا وقود الثورة الأول وشرارة إيقادها.
ظلت الأزمة الاجتماعية تتفاقم وتراكم الفشل رغم تقدم المسار السياسي عبر ثلاثة انتخابات تشريعية وبلدية أفرزت مؤسسات مقبولة شعبياً إلى حد كبير، حتى دخلت الفاشية على الخط (من داخل البرلمان نفسه) وحولت البرلمان إلى سيرك مفتوح تلقفه إعلام بلا ضمير.
اتخذت عناصر الفشل المتراكمة كذريعة من قبل الرئيس ليشرع في إلغاء الدستور، فأوقف البرلمان عن العمل وشرع بمراسيم، وهو يستعد لإلغاء العمل بدستور 2014 بصفة كاملة، وخبراؤه يدبجون الآن دستوراً مؤقتاً يلغي به السنوات العشر من الحوار الديمقراطي والتعددي الذي أنتج الدستور والهيئات المنتخبة وأسس للديمقراطية.
الدستور يحتضر وكتّابه يشهدون واجمين
سانتياغو نصار في قصة الموت المعلن ودستور تونس 2014 في انقلاب قيس سعيد النهاية معروفة مسبقاً في القصتين، والوجوم أو اللامبالاة تخيم على المشهد. الرئيس التونسي الأسبق (المنصف المرزوقي) ورئيس المجلس التأسيسي (مصطفي بن جعفر) ورئيس الحكومة (علي لعريض) هم عناوين دستور 2014 حملة المسؤولية الأدبية في حمايته، يتابعون المشهد كأنهم غير معنيين. جمل قليلة لرفع العتب على طريقة المدونين ثم صمت.
وخلف هؤلاء تصمت كل الأحزاب وكل المنظمات التي ساهمت من داخل المجلس التأسيسي ومن خارجه في حياكة الدستور فصلاً فصلاً، وخاضت النقاشات الديمقراطية فيه وحوله حتى حصل على إجماع تام وصار علامة من علامات النجاح السياسي، وعنوان فخر وطني لكل النخب على مختلف مشاربها.
كل هؤلاء صامتون الآن يترقبون غير مصدقين أن الرئيس ماضٍ في مشروعه الشخصي الذي يبدأ بإلغاء الدستور وإحلال نصه الخاص محله، تمهيداً لحكم فردي لا نعرف نهايته وإن كانت بدايته تمهيداً صريحاً لحكم الفرد المطلق.
لقد راجت أخبار كثيرة عن تدخل أمريكي لحماية الدستور والحفاظ على النظام السياسي الحالي مع أمر صريح للرئيس بالسماح بعودة البرلمان، ولكن هذه (التسريبات) بدت لنا نوعاً من اجتناب معركة مع الرئيس وهروباً من استحقاق الدفاع عن الدستور من قبل من كتبه ومن احتفل بإصداره. وهؤلاء ينتظرون معجزة أمريكية لن تأتي أبداً والرئيس أول من يعرف ذلك. ولذلك يمضي في طريقه لا يلوي على شيء ولا يهتم لرأي أحد.
تنظم مؤقت للسلطات وسقوط الديمقراطيين
لن يكون انتصاراً لقيس سعيد وإن توهم، ولكنه هزيمة لكل من زعم الديمقراطية في تونس. كل الجهد الفكري والمالي الذي بذل في دستور 2014 سيُلغى بجرة قلم، وسيحل محله رئيس فرد يحكم بأمره والديمقراطيون شهود. لحظة مشابهة للحظة بن علي وميثاقه الوطني سنة 1988 ترك الأمر برمته لإرادة فردية رغم مرارة التجربة.
لقد كشفت مغامرة قيس سعيد أن ديمقراطيي تونس ليسوا ديمقراطيين، وأن خطابهم غير صادق. فقد جاء شخص واحد ومسح كل تاريخهم السياسي ونضالاتهم وهو الذي لم ينبس بكلمة ضد الدكتاتوريات المتعاقبة على تونس. لقد كتبوا وصرحوا أن دستور 2014 كان تتويجاً لنضالاتهم الديمقراطية طيلة نصف قرن، وأنه كان دستور إنصاف شهداء النضال الديمقراطي جيلاً بعد جيل، ولكنهم يشهدون صامتين تفريغ كل نضالاتهم من محتواها وردمها تحت خطاب شعبوي مفوت. لقد مسح قيس سعيد تاريخ الديمقراطيين التونسيين بممحاة تلميذ الابتدائي.
توجد جملة مخفية في المشهد. دستور 2014 يسمح بوجود الإسلاميين ويعطيهم حق مشاركة في الشأن العام طبقاً لقواعد الديمقراطية. إن الديمقراطيين يتخلون عن دستورهم كي لا يكون معهم إسلاميون، لقد فعلوها سابقاً مع بن علي ولا تزال صفعاته على وجناتهم الوردية، وأظن أنهم اشتاقوا إلى الصفع.