بعيدًا عن ساحة المعركة لا يكون الحديث عن فلسطين إلا عواطف جياشة، يختلط فيها بكاء الفرح بالنصر بدموع الخوف على الأطفال تحت القصف وبدموع العجز أيضًا، فمشاهدة الحرب ثم إظهار التضامن بالكلام من مسافات بعيدة يخجل كل إنسان حر.
العيد في تونس كان مرًّا وكانت الأحزان تتكثف، فالوباء سجن الناس في البيوت إذا بقوا قتلهم الحزن وبُعد الأحبة، وإذا سافروا تلقفهم الوباء في الطرقات، لكن فلسطين وضعت حلوى بأفواهنا المرة، وهذه بعض العواطف الجياشة في ليلة عيد تتنازعه أحلام النصر وواقع التشتت المهزوم ليس أكثر. لكن رغم ذلك هناك حقائق تترسخ.
أعداء الديمقراطية هم أعداء فلسطين
سبق أن كشفنا توافق أفكار فئات من الناس في تونس تعادي الديمقراطية وتعمل على تخريبها، متهمة إياها بكل شرور الأرض. ونجد مع كل تحرك فلسطيني مقاوم أن هذه الفئات تطل برأسها، مستهينة بكل رباط وبكل مقاومة وساخرة من التسليح البدائي لقطاع غزة المحاصر وصواريخه العبثية.
ويذهب البعض منها في وقاحته إلى التضامن مع ضحايا المقاومة، ويقولون إنها تقتل أطفالًا أبرياء ويغضون الطرف عن الأطفال الأبرياء فعلًا في الجانب الفلسطيني. ولقد رأينا من كثير منهم عجبًا، فهم يبكون دمًا على شرطية فرنسية قتلت غيلة في بلادها وقاتلها مختل عقليًّا، ولكنهم لا يقيسون بالمقياس نفسه إذا تعلق الأمر بسيدة فلسطينية يعبث بكرامتها مستوطن.
ولقد رأينا منهم الأعجب من العجب، فهؤلاء هم طابور العسكر المصري في تونس، وأنصار حفتر الذي خرب الثورة الليبية، وهم شبيحة بشار الذي قتل شعبه وهجره في أقاصي الأرض، وهم من قال إن ثورة الشباب العربي هي ثورة عبرية خططها الصهاينة.
كلما تبينت في الأمة روح مقاومة ساعية إلى الحرية والاستقلال عن كل هيمنة، وجدناهم يقومون ضدها ويرذلونها ترذيلًا بما يجعلنا نوقن من حقيقةٍ يصرون على إنكارها، فحرب التحرير الفلسطينية الجارية في هذه اللحظة في الأرض المحتلة هي معركة أصلية مؤسسة ضمن معارك الربيع العربي، لإرساء الاستقلال والسيادة وبناء الحريات التي لا تزول.
منظورنا تحرري يقوم ضد الخيانات
نصر على هذا المنظور ونضع داخله تحليل الوقائع من خارج الأرض المحتلة (حيث تتسع الرؤية أكثر). ففي الأرض المحتلة محللون يقرؤون الساحة واللحظة أفضل من مشاهد خارجي.
في سياق الخيانات نضع انقلاب العسكر المصري على التجربة الديمقراطية الوليدة، ونضم إليه كل موقف مساند برر له وناصره ومجّده نكاية في ظنه في الإخوان المسلمين، وهو لم يدرِ أو لم يرغب أن يرى حقيقة أوسع وأشمل هي أن الثورة تتسع للجميع، وأن الديمقراطية إذا ترسخت في قطر تفتح طريق التحرير من الظلم والقهر، وتخطو خطوة جبارة في طريق تحرير كامل الوطن المحتل. وهل يوجد قطر عربي غير محتل؟
الاستنتاج الأوضح والأجلى أن معركة مايو/ أيار 2021 أعادت ترتيب الصفوف، وغربلت الخونة وعرّتهم أمام جمهور خدع طويلًا بحديث رمي "إسرائيل" في البحر، منذ 70 عامًا.
لقد كانت 70 عامًا من الكذب والنفاق حكم فيها المنافقون والخونة باسم فلسطين المحتلة، وبتلك الجملة السفيهة "أولوية تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو عن بناء الديمقراطية في الداخل". لذلك وجدنا صواريخ قطاع غزة المحتل الفشنك كما يسمونها تصيبهم في مقتل قبل أن تصيب الصهاينة. لذلك نقرأ تحاليلهم المشفقة على الصهاينة كما نقرأ قيح جروح متعفنة نكأتها الصواريخ، فهي تسيل صديدًا في السوشيال ميديا، ولو قدروا لقطعوها علينا كي لا نعبّر عن فرحنا بنصر صغير في معركة نعرف أنها لا تزال طويلة. رمضان 2021 هو رمضان فضح منافقين عرب خانوا الأمة وقضيتها المركزية منذ 70 عامًا.
الحروب تعلّم الشعوب
هذا هو الدرس الذي يجب أن يكون تحلية العيد والأيام التي تليه، نحن نتعلم ونفرز الصفوف والشعوب برمتها، ونرى حقيقة الوضع الذي طمس تحت ركام العنتريات الكاذبة. ورغم أن الدرس طال كثيرًا وكلف الكثير من الوقت والجهد والدم أيضًا، لكن النتيجة ظهرت ويفوز الآن الصادقون.
هناك تلازم وجب أن يتخذ أداة التحليل المركزية، وهو أن مسارات تحرير الأقطار ترتبط عضويًّا وهيكليًّا بمسارات بناء الديمقراطية في كل قطر. لقد أُقرت هذه الحقيقة قبل هذا المقال، وهو لا يزعم اكتشافها، لكن حرب رمضان أعادت تجليتها بدم الشهيد كما تجلى الجواهر، لكي تتحول إلى قاعدة تحليل علمي وسياسي في مسارات بناء المستقبل.
لا مناص من الدفاع عن الديمقراطية في المعركة نفسها وبنفس وتيرة الدفاع عن التحرير من الاحتلال المباشر. الخونة أنفسهم يجعلون ذلك حقيقة، فهم يسخرون من المقاومة كما يسخرون من الديمقراطية.
الديمقراطية طريق إلى استعادة الشعب لسيادته على وطنه الصغير ضمن معركة تحرير الأمة الواحدة (نعم، ذات الرسالة الخالدة)، ولكن هذه المرة بالديمقراطية لا بالأنظمة القمعية التي رتبت كل الخيانات وعاشت منها.
لقد غيّر الربيع العربي من وعي الكثيرين ووجّههم نحو الحرية والديمقراطية، وفي رمضان الانتصار توضح فلسطين المحتلة الاتجاه وتعلن تلازم المسارات (الديمقراطية تسير بالتوازي مع التحرير وتمهد له)، لذلك نختم بطعم كنافة فلسطينية في أفواهنا بعد عيد كنا نظنه حزينًا فإذا الشهيد الفلسطيني يفيض علينا من الفرح، ما أعاد لنا الأمل في مسار بناء الديمقراطية في تونس. هل نقول شكرًا فلسطين؟ سنقول صبرًا فلسطين نحن هنا على جبهة الديمقراطية ونسألك المدد الروحي، فارجمي الصهاينة هناك فراجماتك تصيب الخونة هنا ونراهم يتراجعون.