طلبت الثورة العربية انجاز كل المهام المؤجلة منذ قرون في يوم واحد. يبدو أن ذلك أفشل كل شيء. هل كان يمكن انجاز كل شيء في يوم واحد؟ السؤال المنهجي يفرض نفسه. من أين كان على الثورة أن تبدأ؟ أول هموم الثورة العربية أنها كشفت المتخلد بالذمة فإذا فروض وواجبات كثيرة تنتظر الانجاز.وأولها إفناء النخبة المستهلكة.
شعب جائع مجوع ينتظر الشبع المطلق وبنية تحتية منهارة تطلب ميزانيات فرعونية لتكون لائقة بالآدميين. ومدرسة خربة في برامجها وأدواتها ومعلميها. وجامعات مفلسة تصنع الجهلة وتمنح شهادات لا تقبل خارج حدودها. ونخبة تطلب الحرية والديمقراطية والثورة الثقافية في ساعة زمن. من أين كان ينبغي أن تبدأ الحكومات الجديدة؟ هذا في الداخل أما في الخارج فالأسباب التي أنتجت ما قبل الثورة من تَرَدٍّ لا تزال حريصة عليه لذلك حاربت كل محاولة للخروج منها. والسؤال الأهم من عليه إنجاز كل هذه المهام في هذا الوقت الضيق؟
ثورات سهلة وثورات مضادة أسهل.
خاض العالم نقاشا طويلا حول طبيعة الثورة العربية التي جاءت على غير منوال. جمد الإيديولوجيون في القياس على النماذج المعروفة فلما عجزوا عن التصنيف استعانوا بنظرية المؤامرة التي خلصتهم من التفكير. ثم تبين أن ذلك علامة على كسل فكري عميق منع هذه التيارات من التطور قبل الثورة وحكم عليها بالموت بعدها. إذ انتهت إلى مساندة المنظومات القديمة لتعيش على هامشها كما كانت تفعل دوما.
المسارعة إلى الانتخابات الانتقالية بشروط المنظومات القديمة أي قبل الحسم الميداني معها سمح لهذه المنظومات بترميم صفوفها بسرعة وإعادة التموقع والانقلاب بسرعة خارقة على الأمل الثوري السلمي.
يمكن تبرير هذه المسارعة بأن التيارات الشعبية (الإسلامية والليبرالية) التي حملت الثورة على أعناقها لم تكن مهيأة للحكم وهذا تبرير سليم لكنه لا يعفي هؤلاء من كونهم عجزوا عن تصور أنفسهم في الحكم والاستعداد له. لقد ألزمتهم المنظومات قبل سقوطها بموقع المعارضة المحتجة دوما فلم ينضجوا بما فيه الكفاية للقيادة. هم ضحايا عجزهم وقصور نظرتهم للحكم وللدولة. ولكن الخطأ الأكبر هو أنهم تقدموا فرادى لمجابهة المنظومات.
لقد كان سقوط رؤوس المنظومة سهلا وكانت عودتها أسهل. وتبين لاحقا أن المنظومة ليست أشخاصا. بل نظاما معقدا من المصالح المحلية والأجنبية وأن تفكيك ذلك يحتاج بالدرجة الأولى وعيا بقوتها وقدرة جماعية على تفكيكها لكن أين تلاشت القدرات الكامنة لدى شعوب توَّاقة للحرية والديمقراطية.
صفوف مفككة في مواجهة منظومة متماسكة.
النقد هنا يتوجه إلى العناصر التي نسميها بالوطنية والشعبية وهي الأحزاب والمنظمات والأشخاص الذي وقفوا نظريا ضد المنظومات طيلة عقود طويلة وتعرضوا للاضطهاد المتواصل وأنتجوا أدبيات كثيرة في مديح الديمقراطية والحرية بصفتهم نخبا واعية بما ينبغي أن يكون.وكانوا نظريا مستعدين للحلول محلها. لكن الثورة الشعبية المفاجأة كشفت عوراتهم. لقد تبين عمليا أنهم أصغر من المرحلة وأقصر نظرا.
الهبة الشعبية التي لم يطلقوها ولم يقودوها تجاوزتهم ورغم ذلك سلمتهم الحكم عبر الانتخابات.(هنا الحالة المصرية والتونسية مثالين ساطعين) وكانت الانتظارات الشعبية هي تحقيق مطالب اجتماعية بالأساس. لكن أمام الأولويات الشعبية والأولويات النخبوية وقعت النخب في أزمتها البنيوية. وهي سؤال البداية؟ الديمقراطية السياسية أولا أم المطالب الاجتماعية؟
من داخل هذه الحيرة تسربت المنظومات القديمة. دافعة المطلبية المادية إلى أقصاها بما وضع الحكومات الجديدة بين خيارين أحلاهما مر. الرضوخ للمطلبية باعتبار أن أصحابها هم من أنجز الثورة ومنح الحكم بما يعنيه ذلك من استنزاف الموارد القليلة أصلا أو المعاندة باسم الحفاظ على الدولة. هنا انكشف عمق المنظومة القديمة وتغلغلها في الإدارة وقدرها على التخريب الممنهج (سيتم استعمال مفهوم الإدارة العميقة كتبرير للعجز أمام التغيير).
لكن بقطع النظر عن الصراع على المواقع والغنيمة بين القادمين الجدد وبين المالكين القدامى لا أحد انتبه إلى أن تفكير النخبة العربية( بكل أطيافها ومراجعها الإيديولوجية) مطابق لأفكار المنظومات القديمة كأنها نسخة منها. مصنوعة على هواها. بل هي فقيرة حتى إلى حيل الإدارة البسيطة وتعيش مُهوّمَة في مقولاتها المتسامية على الواقع.
الثورة وضعتها أمام عريها الأخلاقي وعجزها الفكري وقلة حيلتها في الحكم وفي المعارضة ودفعتها إلى خيانة نفسها وخيانة الأوطان التي تزعم محبتها والذود عنها.
نخبة خربت بيتها بيدها.
جوهر الصراع بين النخب يعود إلى غزوة نابليون(لن نعود أبعد من ذلك). قرنان من الخلاف حول من أين نبدأ ومع من نعمل. ملايين الصفحات حبرت من أجل أن نحدد هذه النقطة. في الحلقة الأخيرة جاءت الثورة وقالت دعوني من صراع الهويات ولنعمل على تحقيق الاستقلال المغدور. ونشبع الجياع ونستر العراة (بعد ستين عاما من الدولة الوطنية). لكن النخب التي عاشت من ذلك الخلاف القديم. عرفت أنْ ستفقد مصدر رزقها ووجودها ورمزيتها فحرنت حيث اعتادت علفها الرخيص.
اختلفت على فلسطين وتخلت عنها.استعانت على بعضها بعدو خارجي ونسقت مع السفارات المعادية واشتكت ببعضها إلى برلمانات أوروبا.وخربت مسار التغيير بكل أشكاله فلا هي قبلت لعبة الانتخابات وصبرت على نضجها ونتائجها البطيئة. ولا هي دفعت الثورات إلى مداها بالعنف لتجهز على المنظومات القديمة. وتشرع في تأسيس مختلف على قاعدة المطالب التي وضعها الشارع على طاولة التغيير.
وكان ذلك هو الوضع المثالي للمنظومات لكي تفرض نفسها من جديد بوسائلها المعتادة. وما كان لهذه المنظومات أن تكون ثورية أكثر من الثورة. فأعادت الأمور إلى نصابها الذي يُقِرُّ لها بالحق عبر القوة والقمع والعمالة. ووجدت النخب نفسها تعود إلى مربع المركوب القصير. وضع الوسيلة التي تقوم بمهمة خيانة نفسها وأفكارها ومشاريعها التي طالما صمت بها الآذان.
كتبت هذا في لحظة مؤلمة. يقوم فيها النظام العسكري المنقلب على الثورة في مصر بإغراق غزة وقطع رزقها المسروق من تحت الأنفاق وإعادة تأليف حكومته بوزراء المخلوع مبارك. وفي الوقت الذي يسلم التونسيون أنفسهم للسفارات تحدد لهم ما ينبغي أن يكون ويجلسون إلى مديرة صندوق النقد الدولي تملي عليهم ما يفعلون بالفقراء. ويتنافسون على من يرضي رجال المنظومة القديمة فيمن يرجع لها أموالها ويعفيها من المحاسبة. بينما تحل كتائب الموت السوداء الروسية بأرض الشام لتحارب إلى جانب الأسد الجبان.
أين الخطأ ؟ أنا المواطن العربي الذي خربت روحه الأنظمة الفاسدة لمدة نصف قرن اتهم النخب العربية بكل أطيافها. لقد كانت دون شعوبها ودون طموحاتها وكانت عونا للعدو الداخلي والخارجي على نفسها وعلى أوطانها وعلى شعوبها. وأشعر أنه علي أن أبذل جيلا آخر حتى تتحلل هذه النخبة في العدم.