لحظة الربيع العربي جاءت بعد زمن طويل من مبادئ ولسن وحق الشعوب في تقرير مصيرها.. المسافة الزمنية الفاصلة بين الحماس لحكومة عالمية (عصبة الأمم) وانطلاقة الربيع العربي بنى فيها العرب دولا أو كيانات سياسية مستقلة (هكذا)، وشاركوا العالم قضاياه على الأقل في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.
زمن مبادئ ولسن والإقرار بحقوق الشعوب أمل كثيرون ومنهم العرب أن تكون في الأرض عدالة شاملة، وأن يكون لهم أصدقاء في هذا العالم الرومانسي يساعدونهم على تدبر أحوالهم وأن يحرروا معهم أرضهم ومقدساتهم المحتلة. لكن أوشك القرن أن ينقضي ولا صديق للعرب؛ إلا من طامع في نفط وثروات باطنية رخيصة أو عمالة بأقل كلفة.
كشف الربيع العربي أن ليس للعرب المؤمنين بالديمقراطية صديق في محيطهم الإقليمي والدولي، وزاد في توضيح دور الكيان الصهيوني في التسلل بين الصفوف وتمرير الخيارات غير الديمقراطية بواسطة قائمة طويلة من العملاء المحليين الجاهزين لتقديم هذه الخدمة، وغالبا بلا مقابل معروف، مما رسخ قناعة سابقة على الربيع العربي أن الديمقراطية هي الترياق للتحرر من الصهيونية، وأن من يعادي الديمقراطية في الأقطار العربية يتحالف مع هذا الكيان ويستند إليه للبقاء، وصارت الحرب على الديمقراطية شرط بقاء الأنظمة العربية مرورا بالولاء للكيان.
أولى مؤشرات الخطر التي أعلنها الربيع العربي
رغم الفخ الانتخابي الذي كان مهّد لنجاة منظومات الحكم الفاسدة والمعادية للديمقراطية، والتي كانت باقية في مواقعها بفضل مهادنة الكيان الصهيوني والدول الراعية له، فإن علامات كثيرة كشفت وعيا شعبيا حادا ربط بين التحرر من الأنظمة بواسطة الديمقراطية في الداخل وتحرير الأرض المحتلة بواسطة شعوب عربية حرة ومتضامنة في قضيتها المركزية.
وجب أن نذكر هنا بأن شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" هو شعار بلا أب محدد؛ لأنه أطلق في خضم موجة الاحتجاجات التي قيل إنها اجتماعية فقط. لقد انفجر الشعار وتبناه الجميع، وفي مظاهرات كثيرة كان ترديده يسبق أي شعار اجتماعي آخر. هذا الوعي الشعبي ترجمته أو استجابت له في تونس أول حكومة أفرزتها الثورة، فسافر وفد حكومي إلى غزة ليفك الحصار، وفتحت مصر مرسي حدود غزة فتمولت المقاومة بالغذاء والسلاح.
وبالتوازي كانت قوافل التضامن الشعبي تعبر ليبيا ومصر قادمة من تونس (وحتى من الجزائر عبر تونس) بما تيسر من قوت من فقراء العرب لفقراء غزة، ولم يشعر أي من السائرين باختلال أولوياته النضالية. كانت عملية بناء الديمقراطية تتم مع السعي إلى تحرير فلسطين، وكان هذا ناقوس خطر نبه إلى تلازم المسارات التاريخية لبناء الديمقراطية والتحرير.
ونعتبر أن انقلاب مصر الذي هندسه الغرب بكل تفصيلاته وتخيروا له أداته؛ هو الرد على موجة ثورة الديمقراطية والحرية. ثم كانت الثورة المضادة التي انتهت بدستور قيس سعيد في تونس (الذي خدع العرب وفي مقدمتهم فقراء غزة بشعار التطبيع خيانة عظمى)، وانكسر الاهتمام كالعادة بالأرض المحتلة ومعاناتها اليومية مع الاحتلال والحصار والتجويع بإشراف مصري محكم بدأ بردم الأنفاق وقطع كل وشائج التضامن.
أموال العرب ضد الديمقراطية
البند الخفي في صفقة القرن والذي لم يظهر للعيان في حينه كان وضع المال العربي ضد بناء الديمقراطية، لذلك وجدناه يمول الثورة المضادة في أي موضع ظهر فيه أعداء التجربة الناشئة، بدءا بمصر وصولا إلى تونس مرورا بليبيا؛ حيث صار حفتر الخائن بطلا شعبيا يحظى بدعم أممي وله وجهة نظر في حل المعضلة الليبية.
المال العربي وليس الخليجي فقط انصب كله لخدمة الثورة المضادة، وظهر الإرهاب في كل مكان كان مطلوبا فيه إحداث اضطرابات وتشويش على مسار التحرر والبناء الديمقراطي. والحالة التونسية نموذجية لفهم هذه النقطة بالذات، فأعادت كشف الصورة القديمة.
منظومات المال الفاسد والمشبوه حكمت بلدانها بأنظمة فاسدة واحتمت بها وحمتها من كل احتجاج شعبي، والأنظمة تحتمي بالكيان (فساد مالي وفساد سياسي وخيانة وطنية وقومية، في تحالف لم يعد يخفى على ذي نظر)، فلما أرعبها الاحتمال الديمقراطي وضعت ثقلها المالي ضده فكسرته وعادت إلى الحكم، وعاد الديمقراطيون إلى المربعات الأولى للدفاع عن الحدود الدنيا من البقاء.
وقد تأكد هذا بعد قمة الخليج الأخيرة (تموز/ يوليو 2022)، حيث جاء الرئيس الديمقراطي الدمث اللطيف ليكرس نفس مشروع ترامب الشعبوي الوقح، ويقضي على وهم اختلاف الديمقراطيين عن الجمهوريين في مسألة حماية الكيان وتسييده على المنطقة، مذكرا بأن انقلاب العسكر المصري على الديمقراطية تم بإذن وموافقة من رئيس ديمقراطي. لقد كانت قمة تنهي وهم وجود أصدقاء للعرب الديمقراطيين خارج صدورهم المقهورة من الداخل العميل الفاسد ومن الخارج المعادي منذ قرون.
أيهما أسبق.. بناء الديمقراطية أم ترسيخ التحرر من الاحتلال؟
إذا كان هناك درس يستخلص من السنوات الاثنتي عشرة للربيع العربي، فهو أن أولويات الديمقراطيين العرب لم تكن مرتبة ترتيبا صحيحا. لا يمكن بناء الديمقراطية في الداخل قبل تكريس تحرر وطني من الاحتلالات المختلفة، أو على الأقل العمل على تلازم المسارين.
يوجد أعداء في الداخل وليسوا رؤوس الأنظمة التي خدع سقوطها السريع وبكلفة قليلة كل الديمقراطيين العرب فوقعوا في الفخ الانتخابي (خاصة الحالة التونسية والمصرية). هم عصبيات المال الفاسد وقطعان الأيديولوجيات من قوميين ويسار فاشي.
توجد أسباب أو مبررات لم يعد يمكن التظاهر بقبولها، وهي أن كل الديمقراطيين وعامودهم القوي، الأحزاب والحركات الإسلامية (وأصر على إقصاء اليسار والقوميين منهم)، عارضوا رؤوس الأنظمة في بلدانهم ولم يفهموا عقل منظومات الحكم واستهانوا بإعداد أطروحات الحكم البديلة لما بعدهم، فلما فاجأتهم الثورات الشعبية وجدوا أنفسهم في حالة فقر برامجي عاجزين عن الاقتراح وتقديم حلول عبقرية، فكانت نتيجة عملهم هي إعادة إنتاج الأنظمة الساقطة والتراضي أو المصالحة مع منظومات الحكم المتمكن، فالتفّت عليهم كما تلتف الأناكوندا على فريستها فعصرتهم عصرا، فإذا هم مختنقون والشوارع الشعبية تقوم ضدهم. هذا فضلا على أنهم احتكموا إلى ثقافة سياسية متسامحة إلى حد الدروشة السياسية، وكان الرعب من الدم يحكم مواقفهم.
لقد كان درس خيمة التحكيم في صِفّين ماثلا أمامهم، وفي الوقت الذي كان يجب الاقتداء بعمرو بن العاص فضلوا اتباع أبي موسى الأشعري فعزلوا صاحبهم (أنفسهم). كان لموقف عمرو ثمن من جرأة وغنيمته دولة، ولم يدفعه أحد.
وهنا تبدو لي الأحزاب الاسلامية مدانة، فقد منحتها الشعوب ثقتها فاختارت مهادنة المنظومات. ونراها لم تقرأ السنوات الأولى من الثورة الإيرانية، رغم أنها ناصرتها وأعجبت بها وهي تصفي البزار ورجاله وترسخ مشروعها. لقد قال الربيع العربي جملته الفاصلة بعد وصول قيس سعيد وتحكّمه في مصير ثورة تونس ثم تفكيكها، وبتخطيط وضع في مكاتب الشؤون المعنوية للجيش المصري: إذا خفت من كلفة الدم لا تتقدم للحكم، ولا تنتظر هدايا من أي صديق في الخارج فلا صديق لك.
ودون أن نمارس رياضة ذبح الإسلاميين بالمجان، وجب أن ننبه إلى أن كثيرا من الديمقراطيين العرب هم أشخاص بلا وزن في الشارع (مثال الرئيس المنصف المرزوقي في تونس وأيمن نور في مصر)، وقد سبقوا الإسلاميين في محاربة رؤوس الأنظمة، لكنهم لم يهتموا أبدا ببناء ماكينات تقود الشارع واعتمدوا على جمهور الأحزاب الإسلامية كأنه مركوب مجاني. وهذا مدخل آخر للفشل في الداخل، فضلا على أن كثيرا من هؤلاء تحدثوا عن الديمقراطية من مقاهي باريس ولندن وإسطنبول، فخيالهم السياسي لم يربط أبدا بين تكريس الاستقلال وبناء الديمقراطية في الداخل.